وقفت متململة تحاول الابتسام فلا يلوح على شفتيها إلا بقايا ابتسامة ماتت من زمن طويل. وثقل الموقف ولم يفتح علي بكلمة، فأرادت الخلاص فأشارت إشارة المحكوم عليه إلى الجلاد ليعجل عليه بالإنقاذ ويخلصه من الانتظار الذي هو شر من الإنقاذ.
أشارت بيد إلى الفراش. كأنها تقول: تريد؟ وبالأخرى إلى ثيابها كأنها تقول: أنزع؟ وعاودت أعصابي هياجها، ولكني نظرت إلى عينيها فرأيتهما تقولان لقلبي شيئا غير ما تقول اليدان، فأجبت برأسي أن لا!
ودعوتها فقعدت إلى جنبي، وهمت بأن تلقي بذراعها على كتفي، وبصرها تائه في الأفق البعيد، كأنها تتحرك وهي منومة، فمنعتها برفق، وكلمتها بالإنكليزية، فأومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها الكلمات القليلة التي أحفظها من العبرية، فعلت وجهها سحابة سوداء من الألم، وغامت عيناها لحظة، ثم أومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها بالفرنسية فلم تفهم.
ففكرت هل أخاطر وأكلمها بالعربية، وكنت أعلم ما في ذلك من الأذى لي والضر بي، ولكني أقدمت وقلت لها: هل أنت عربية؟
فانتفضت انتفاضة لو كانت بصخرة لصبت فيها الروح، ولانبجست فيها الحياة. وأضاء ذلك الوجه الجميل، الذي كان عليه نقابان: نقاب من التبذل الظاهر، ونقاب من الألم المخفي، وأشرق بنور سماوي وحدقت في بعينيها العجيبتين، وفيهما لمعة الفرح، وفيهما حملقة الذعر، وقالت:
- هل أنت عربي؟
فترددت ما بين خوفي منها، وبين عطفي عليها، فخفت أن تكون يهودية فتشي بي، وأشفقت أن تكون عربية تحتاج إلى، ثم غلبت ثقتي بها، فقلت لها:
- نعم
- قالت: وأنا عربية، من أسرة (كذا) من بلدة (كذا) ومعي خمس وثمانون من بنات العرب. . . فأحسست كأن خنجراً مسموما قد أوقد عليه وغرز في قلبي، وكأن الأرض تدور بي، ولكني تثبت ولم أحب أن أفجع المسكينة بهذا الحلم البهي الذي رأيت ظلاله على وجهها، لقد حسبت من خلال الفرحة الطارئة أنها من يافا العربية، وأنها قد عادت إلى طفولتها المدللة، وعادت لها طهارة تلك الطفولة، وأنها لا تزال العذراء البكر تعيش بين أهليها