للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وذويها في حمى الأبطال العرب الذين كانوا يحرسون أرض الوطن، وعرض بنات الوطن، وحمى الجيوش العربية التي كانت أعلامها تلوح على الآفاق الأربعة البعيدة، من وادي النيل، وجنبات الأردن، وخمائل الغوطة، وسهول العراق، وبطاح نجد، فتبعث في نفوس عذارى فلسطين الدعة والأمن، وفي قلوب شبابه الزهو والكبر، وتمنعها أن تطيف بها رهبة من يهود.

ولكن هذه الإشراقة ما لبثت أن بدت حتى اختفت. إن الصبح الذي حسبته قد انبلج بعد ما طال منها ارتقابه لا يزال بعيدا، والشاطئ الذي ظنته دنا بعد ما اشتد إليه حنينها لا يزال ضائعا في الضباب، ولا يزال مكتوبا عليها أن تقاسي الذل آماداً أخرى - لا يزال في الكأس المريرة بقايا عليها أن تتجرعها.

خبت إشراقة النور التي وقدت على جبينها. وانطفأ البريق الذي لمع في عينيها، وهيض الجناح فهبطت من سماء الأحلام إلى أرض الحقيقة التي قيدتها بها قيود اليهود. وصحت من سكرة الفرح فإذا هي حيث كانت، لا الحرية عادت ولا الأهل، ولا الليالي الماضيات تعود.

وفاضت النفس رحمة بها وحنانا عليها، فطوقتها بيدي فانكمشت والتصقت بي، كما تفعل القطة الوديعة، وأخفت وجهها في صدري، وهي تنشج نشيجا خافتا، تمنيت معه لو أستطيع أن أشتري سعادتها التي فقدتها بحياتي لأردها عليها، وأحسست أني أحبها منذ الأزل، وأني لم أعش يوما منفردا عنها، ولا أعيش يوما بعد فراقها، وأن قد امتزج منا الجسمان، واتحد الروحان، واختصر الزمان حتى كان هذه اللحظة وحدها، كما يختصر شعاع الشمس في عدسة الزجاج في نقطة واحدة، وفي هذه النقطة الأشعة كلها، فلا ماض مضى ولا آت يجيء. . .

وهتفت بي ووجهها خلال ثيابي، وأنا أحس خفق قلبها فوق صدري، كأنه حديث من قلبها إلى قلبي:

- لن أعود إلى حمأة الرذيلة. لن أعود. خذني معك، إلى الشام، إلى الأردن، إلى الصحراء، إلى أي بلد عربي لا حكم فيه لليهود. خذني أكن خادما لك، أكن أمة، أو فأعني على الموت، فإني لا أجرؤ وحدي عليه، حتى لا أهين بجسدي الملوث الأرض التي احتوت

<<  <  ج:
ص:  >  >>