وشدت روح الأبوة، وسلائق العروبة من عزمه، فنهض يسعى لينقذني وكلما ونى ذكر أن ابنته التي رباها بدمه وغذاها من روحه ورجا لها المستقبل البارع ستغدو أمة لليهود، فتعاوده القوة حتى استنفد آخر قطرة من قواه، فسقط مرة ثانية قبل أن يدركنا.
تمر على الإنسان المصائب الثقال فينساها. يمرض حتى يتمنى الموت ثم يدركه الشفاء فينسى أيام المرض. ويموت أليفه فيألم حتى يعاف العيش ثم ينسى موت الحبيب، ولكن مصيبة الفتاة بعفافها لا تنسى حتى ترد ذكراها معها الموت.
لقد كانت هذي الساعة بداية آلامي التي سأحملها معي إلى القبر. فقدت الأب والأم، ثم فقدت العفاف وغدوت مثل البغايا، فأين عينا أبي ترياني؟ أين أبي؟ هل هو حي معذب مثلي أم قد مات واستراح؟
إني لأرجو أن يكون قد مات. أفرأيت ابنة تتمنى الموت لأبيها؟ نعم. حتى لا يرى ما حل ببنته فيجد ما هو أشد عليه من الموت.
ولما غدوت وحيدة في أيديهم، وعرفت أنه لا معين لي بعد أن فقدت أبي، تنبهت في القوى الكامنة، وأمدني اليأس بالعزم، وشعرت بأني كبرت فجأة حتى أصبحت بجنب أختي الصغيرة أما لها بعد أمها، وأبا بعد أبيها، وأن علي أن أحميها. وقلت لنفسي: إذا كانت الدجاجة تدفع عن فراخها هجمة النسر، والقطة إن ضويقت واستيأست تقاتل الذئب؟ فلم اعجز عن حماية هذه الطفلة؟ وقد كانت طفلة حقا، كانت في الثالثة عشرة تبكي بكاء، ما رأيت قط مثله، وترتجف كل عضلة من جسمها كما ترتجف كل ورقة في الشجرة هبت عليها رياح الخريف.
وتنمرت واستبسلت دونها ولكنه غلبوني وأخذوها مني ثم وضعوني في سيارة جيب مع ثلاثة من جنود يهود.
وطفقت أدافع بيدي ورجلي، وأعض بأسناني حتى عجز عني أنا البنت الضعيفة ثلاثة الرجال. فلو أن كل عربي من أهل فلسطين وكل امرأة وكل ولد، كان قاتل بسلاحه وقاتل بعصاه إن لم يجد السلاح، وبحجارة أرض الوطن وبيديه وأسنانه لما استطاع اليهود. . .
ولما ذكرت اليهود ارتجفت من الخوف. وتلفت حولها تخشى أن تسرق همسها آذان خفية في الجدار فتنقله إلى جلاديها قالت: