للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وركب البحر إلى الإسكندرية، فتلقاه عمه بالبشر والبشاشة ووجد فيه مؤنسا له في دار الغربة. . ولما باح له ماريوتو بسره، لم يشأ الرجل النبيل أن يثرب عليه أو أن يعزله، بل أذهب عنه الحزن بكلمات طيبات، وغلا فمناه بصلاح الحال وتلافي ما وقع بينه وبين أسرة القتيل من خصومة وعداء. . ولم يكن ذلك من الجد في شيء، لكنه كان مبالغة في إكرام مثوى الفتى، الذي استطاع أن يخلب لب عمه بأسلوبه الغرامي الحزين الحنون.

وعهد إليه عمه ببعض مهامه التجارية لتشغله قليلا عن أحزانه، ثم أشركه معه في منزله الجميل على شاطئ البحر الأبيض فكان ماريوتو كلما فرغ من عمل النهار، خلا إلى نفسه في الليل ففتح النافذة المطلة على البحر العتيد، وراح يتنسم أنفاسه، ويستروح صباه، ويقرأ من حبيبته أو يكتب إليها، ويغسل ذلك كله بدموعه الحرار الطاهرات، فكانت هذه اللحظات على ما فيها من ألم وما بطنت به من عذاب وهم، أسعد لحظات حياته، لأنها شعر الماضي وأحلامه، تطفو على سطح الحاضر وتعلل بالآمال ظلام المستقبل.

وتحالفت الهموم على جيانوزا فزادتها جمالا، وهام بها شباب المدينة هياماً جعلهم يترامون على قدميها في كل طريق كما يترامى الفراش في اللهب. وذهب كثير منهم إلى أبيها يخطبونها على أنفسهم، ويمهرونها بكل ما يملكون، وكان الوالد كلما كلمها في أحدهم تعللت وانتحلت المعاذير، فكان الأب الحائر يترفق بها ويتلطف، ثم ينزل عند مشيئتها بغير ما حجة ولا برهان مبين، ثم يصرف شباب المدينة في حدب وفي استحياء.

وهكذا ظل السر الرهيب دفيناً في صدر الفتاة يعذبها ولكنه مع ذلك كان مصدر سعادتها الباكية، ولذتها الحزينة، والنبع ذا الخرير الذي تختلط فيه آلام الماضي وآلام الحاضر لتثمر مخاوف المستقبل.

وضاقت بها أفانين المعاذير فلم تعد تدري ماذا تلفق منها وماذا تدع، فلما أحست أن الشكوك أخذت تساور أباها من جراء هذا التمنع، وأنه يلح في معرفة سرها، قلق قلبها الخفاق، وسدرت نفسها المستهامة. . ثم ذكرت الراهب الصغير الذي في وسعه أن يصنع كل شيء. . فانسرقت إليه وذكرت له ما كان من فرار ماريوتو إلى الإسكندرية وما كان من إلحاح أبيها عليها بالزواج، وما حرصت عليه من كتمان زواجها على أبويها، وكرهها أن تبوح به خشية ما يجر إليه من عواقب. . ثم سكبت عبراتها بين يدي القس ونثرتها على قدميه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>