العربية تطورت أحوالها بجهودها وانتقلت من منزلة إلى أخرى بفعل تدرج عناصرها في سلم النشوء والارتقاء حسب سنة الطبيعة.
أن مملكة السبئيين يرجع عهد تاريخ حضارتها إلى عصر سليمان ملك إسرائيل، أي قبل الميلاد بألف سنة؛ وقد كانت موجودة قبل هذا الزمن بقرون عديدة، لأن جدول أسماء أثنين وثلاثين ملكاً من المعينيين والسبئيين يدل دلالة واضحة على رسوخ قدم هذه الديار في الحضارة والعمران. ومن المرجح أن المكتشفات المقبلة ستقف أبناء هذا العصر على كثير من الأمور التي كان يجهلها أسلافهم. نعم أن أقدم الكتابات المكتشفة تشير إلى حضارة وتجارة وعلم وأدب بزغت أنوارها في ديار قيدار وسالع قبل عهد التاريخ، وعليه قال أحد الأثريين: يجب أن تصف بلاد العرب في مصاف ديار مصر والكلدان لأنها إحدى الممالك القديمة التي ظهر فيها جماعات من القبائل أبلغوها إلى ذروة الحضارة والسؤدد منذ العصور المتوغلة في القدم، وقد نطقت بعض العاديات شهادة صادقة، وهي أن جنوب بلاد العرب يرتقي عهد مدنيته إلى عصر سرجون وإلى منيس.
تشير روايات قديمة وتنبئ أسانيد أثرية عند بلاد العرب الجنوبية أو عن البلاد المتصلة بساحل أفريقية من جهة الشمال الشرقي بأنها كانت مصدر الحضارات الأخرى، فقد جاء في أساطير البابليين أن الآله (أونيس) وهو إله الثقافة عندهم كان يخرج من الخليج الأرثري أي خليج فارس ويهذب الكلدان القدماء، وهو أول من علمهم العلوم ولقنهم الفنون وشهد قدماء الفينيقيين، وقالوا أن منشأهم كان من جزر البحرين الواقعة في الخليج المشار إليه. هذا والمصريون كانوا ينظرون إلى البنط بكل احترام، ويجلون قدرهم ويرفعون منزلتهم فوق الأمم الأخرى. ومن المؤكد الثابت أن موقع هذه الديار كان يمثل بلاد العرب السعيدة وأرض السومال. وقد ذهب أهل مصر في ذلك العهد إلى أن مصدر ثقافتهم وينبوع آدابهم ومعارفهم ومدنيتهم لم يكن في مصر العليا والسفلى بل في مصر الوسطى في أبيدوس حيث حكم توت وأوزيريس، وهناك مضيق يفصل النيل عن البحر الأحمر، وهذه الشقة الضيقة من الأرض كانت من أهم وأعظم طرق المواصلات التجارية بين البلاد العربية ومصر.
كانت أواصر الألفة والاتحاد متينة بين المصريين والبنطيين منذ الأزمنة القديمة، وهذه