يحصروا المعاني كلها، ويجمعوا (ألف وباء) الفكر الإنساني، ويضعوا لكل معنى رمزاً خاصاً به، وبذا تتكون اللغة العلمية العالمية.
قال بذلك (ليبنتز)، فتنبأ بالمنطق الرياضي، وسبق عصره بنحو قرنين، وأثار لأول مرة فكرة اللغة العالمية. ولا غرابة فقد كانت اللاتينية لغة العلم والعلماء لعهده. هذا إلى أنه كان عالمي النزعة إن في العلم أو في السياسة. وفي هذه اللغة المنشودة ما يقرب المسافة بين بني الإنسان، وما يحول دون أخطاء كثيرة؛ لأن الخطأ في الحكم والاستدلال كثيراً ما ينشأ عن خلاف لفظي أو غموض في التعبير؛ ويوم يتوفر لكل معنى رمز خاص به نستطيع أن نقول: لنحسب، بدل أن نقول: لنبرهن.
وقد عادت فكرة اللغة العالمية إلى الظهور مرة أخرى قوية متحفزة في أول هذا القرن؛ وكان من أكبر مناصريها رياضي وفيلسوف فرنسي بارع انتزع فجأة في الحرب الكبرى الأولى، وهو (كونورا) الذي كان يرمي إلى تهذيب الاسبرنتو وتكوين (الإبدو) تلك اللغة الدولية التي تفرض نفسها على جميع العقول وجميع الشعوب. وقد وضع في ذلك معجماً خاصاً، أخذ عنه كثيراً الأستاذ لالاند في معجمه الفلسفي المشهور.
والرياضة أقل العلوم حاجة إلى الألفاظ والتراكيب، لأنها أبعدها مدى في العموم والتجريد. فإذا ما حصرت حقائقها، واختير لكل حقيقة رمز معين أمكن تكوين لغة رياضية كاملة. وعلى غرار هذه اللغة الرياضية يمكن وضع اللغة العالمية. وقد كان كونورا فوق تخصصه في المنطق والرياضة ملماً بأطراف الدراسات اللغوية المقارنة، فأخذ يبحث عن وصول عامة يمكن أن تتخذ أساساً للغة الدولية، وحاول فعلاً أن يكوّن هذه اللغة ويعد لها نحوها الخاص.
ولم تلبث محاولته هذه أن تثير ثائرة علماء الاجتماع الفرنسيين، وعلى رأسهم دركايم. فلم يرتضوا ذلك المنطق الإنساني الذي يقود إلى لغة عالمية، وقرروا أن هناك أسرا لغوية بقدر ما هناك من مجتمعات إنسانية. وسواء أصبحت الأسس التي بني عليها كونورا مقترحه أم لم تصح، فإن فكرة اللغة الدولية قد ازدادت في ربع القرن الأخيرة قوة ووضوحا. ولعل في سرعة الاتصال العالمي اليوم ما ييسر سبلها. ويتيح لها الفرصة لتخرج من دائرة الرغبة والأمل إلى عالم الحقيقة والوجود