عني، كأنها لم تكن لي، ولم أكن كاتبها. . فجعلت أتلوها وجعلت صور أيامي الماضية تمر أمام عيني. . فأرى تلك الأيام التي أضعتها في التعليم، وتلك الأفكار والصور التي خسرتها ونكبت بها. . وليس المنكوب من ذهب ماله، أو احترقت داره، فإن الصحة ترد المال، والمال بعيد الدار، ولكن المنكوب من ثكل أفكاره؛ وأضاع ذكاءه؛ وعاش بائساً يائساً، ومات مغموراً منكراً؛ وقد كان أهلاً لأنيسعد حياً بذكائه؛ ويخلد ميتاً بآثاره.
إن المنكوب هو المعلم الأديب؛ الذي وهب له الأدب؛ وكتب عليه التعليم: إنه يكسب ثمرة حياته، وعصارة قلبه؛ الليالي الطوال التي أحياها ساهراً، عاكفاً على كتبه، مطفئاً نور عينيه، مذبلاً زهرة شبابه، يصبها كلها بين أيدي طلاب لا يكاد أكثرهم يحفظ لمعلم عهداً، ولا يذكر له رداً، يصبح المعلم الأديب وفي نفسه موضوع المقالة، وفيها صورها وأفكارها، ولكنه لا يستطيع أن يكتبها، إنه مشغول عنها بتصحيح وظائف التلاميذ، هذه الوظائف التي تحرمه لذة المنام، وأنس السمر، ومتعة المطالعة، وتأكل صحته ووقته، ثم إذا انتهى منها وحملها إلى التلاميذ مصححة لم يتنازل أحدهم إلى النظر فيها، وإنما يلقونها في أدراجهم لينظر فيها الشيطان، ثم يأتي الآذن فيجمعها ليوقد بها النار. . .
ويعد الدرس وينفق في إعداده من الجهد ما لا يعلمه إلا الله، والمخلصون من المعلمين، ويلقيه مندفعاً متحمساً. فلا يروعه (إن كان في الابتدائي) إلا تلميذ يخز رفيقه بمرفقه ليريه كيف اصطاد ذبابة. . . أو ليحدثه (إن كان في الثانوي) حديث رواية في سينما، أو مباراة على ملعب، أو تلميذ يقرأ قصة سخيفة من قصص الجيب، أو يصور على الورقة ثوراً له قرنان، أو يرسم الأستاذ المحترم. . . وإن كان (في الجامعة) رأى أمامه فلماً من أفلام الحب ناطقاً بلغة العيون. .
ثم يكبر الطلاب، فينكرون المعلم وينسونه، وربما أحتاج إلى أحدهم فأراه صنوف الحرمان، وربما صار أحدهم رئيسه فأذاقه ألوان الردى. . . مسكين والله المعلم!
٤ - أجير الخباز
هذه صورة وصفية صادقة لحادث حدث من يومين، وكان النهار مصحياً دافئاً، وآلاف الشباب يتبخترون على طرفي شارع فؤاد، مرجلة شعورهم، مصقولة وجوههم، محبوكة ثيابهم، يختالون زهواً وإعجاباً، كسرب من الطواويس، أو كجماعة من ديكة الحبشة،