منفوشاً ريشها، ومئات البنات، من كل جميلة صنعتها يد الله، وذات جمال من عمل الحلاق والخياط، وبائع الأصباغ وصانع العطور، يخطرن، ينثرن حولهن الفتنة، وينشرن الإغراء.
وشمس الأصيل تطل من خلال منافذ شارع الغربية، كما يطل الأمل من فرج اليأس؛ فتنقل هؤلاء الناس من أرض الحقيقة إلى سماء الأحلام، فيذهبون جميعاً إلى أعماق حلم ذهبي، تضيع فيه هذه الرؤوس المتعانقة، التي غرقت في نشوة الحب، وغابت في هذا الهمس الناعم، الذي تنسى معه الدنيا وما فيها، وهذه الرؤوس المفردة التي تتعلل بذكريات لذة ماضية، وخيالات لذة لم تأت، وتغوص في رؤى شيطانية فاجرة من عمل الحرمان.
ورأيت في وسط هذا العالم البهيج، السابح في غمرة النعيم، صورة من صور البؤس، ومظهراً من مظاهر هذا الظلم الاجتماعي. . رأيت صباً لا أظنه قد أكمل العاشرة، ضامر الوجنات من الهزال، بادي العظام، يمشي حافياً، بخطى واهنة متقاربة على ساقين كأنهما قصبتان من القنب، يلبس معطفاً واسعاً ممزق الظهر يتعثر فيه تعثراً، فوق قميص رقيق مخرق، يحمل على عنق دقيق مثل عنق الدجاجة (فرشاً) كبيراً عليه ركام من الخبز، يكاد الغلام ينسحق تحته.
وكان هؤلاء المنعمون الذين أثقلتهم التخمة. وأبطرهم الترف، يتحامونه ويبتعدون عنه، ويضمون أثيابهم أن تلامس ثيابه، كأنما هو مجذوم أو مجرم، أو كأنه وحش كاسر. . ولم يلتفت إليه واحد منهم. ولم يرحم هذه الطفولة المعذبة، ولم يقع عليه نظر، وإنما كانت الأنظار كلها منصبة على تلك العيون، التي يتدفق منها الفتون، وتلك القدود، التي تميس برقة، وتخطر بدلال. . .
وكانت السيارات تتسابق تحمل المدللين من أبناء الأمة: الموظفين الكبار الذين تهبط عليهم الخيرات بلا حساب، والمجدودين من الوارثين وأغنياء الحرب واللصوص المختبئين في ثياب الأشراف.
. . . ومرت سيارة أنيقة فخمة من سيارات الدولة فيها سيدة ملفوفة بالفرو، تكاد تنفزر مما نفخها البطر، وولد واقف على شباك السيارة، قد مد رأسه ينظر ويلتهي، وكأنه يسخر من هذا الشعب الذي دفع ثمن السيارة من عرق عامله، ودم فقيره، ليركب فيها هو وأمه، إلى