والهوى إن هي إلا حرب طالما ينهزم فيها العقل هزيمة تضعضع جانبه وتتركه على شفا الانقراض وحافة الزلزال. ولكنها حرب تكون مشفوعة دائماً بالتوبة والندم، إنها حرب تستنهض العزم الصادق وتحدد قوى الإيمان بوجوب انتصار العقل وهزيمة الهوى، هذا إذا كان جوهر النفس نقياً ولبا بها حراً، فإن الخير فيها سينتصر على الشر لا محالة.
يا ويل النفس الإنسانية بين ضعفها وقوة شهواتها، وما أشد خطبها بين قوى الخير والشر، أليست حياة الإنسان سلسلة من العثرات؟ وهل في مقدرو الإنسان أن يتفادى كل العثرات وينجو منها. إن المرء لا ينهض من عثرة إلا على أخرى. وبين هذه وتلك عبرات ونحيب وبكاء وشهيق وزفرات ونشيج. فإن استطاع بعد طول المجاهدة أن يغلب على هواه كان ذلك فوزاً عظيماً،
وكان دليلاً على لباب نفسه حقاً وجوهرها صحيحاً. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتجاوز عن الجزئيات، لأنها وحدها لا تستطيع أن تجلو لنا الحقيقة وتعرفنا معدن النفس.
إن حياة المرء العادية هي الحياة التي تكشف لنا عن جوهر نفسه وحر معدنه؛ لأنه سيكون فيها سائراً على سجيته بغير كلفة ولا تصنع.
ونحن إذا تتبعنا محمداً في حياته اليومية خرجنا بما يثبت صحة ما نقول، من أنه مبعوث الأبدية ورسول العناية القدسية.
فقد كان محمد صوت فؤاد يهيم بين الرجاء والخوف، الرجاء والأمل في سعة ورحمة ربه. . . والخوف من ارتكاب الذنوب وهول يوم الحساب رغم أنه كان متديناً شديد التمسك بدينه. . موعوداً من ربه بالمثوبة وحسن الجزاء. وقد تروى عنه مكرمات عالية وتذكر له صفات هي في الذروة من الصفات الإنسانية، فعندما مات أبنه إبراهيم قال: إن العين لتدمع والقلب ليوجع والنفس لتجزع ولا نقول ما يغضب الله. . . ولما استشهد مولاه زيد بن حارثة في غزوة (مؤتة) قال محمد: لقد جاهد زيد في الله حق جهاده، وقد لقي الآن ربه خالصاً فلا بأس عليه. غير أن أبنت زيد رأت محمداً بعد ذلك يبكي على جثة أبيها، رأت الرجل الذي دب المشيب في مفرقيه تسيل عينه دمعاً ويذوب قلبه حزناً، فنظرت إليه متعجبة، ثم قالت: ماذا أرى؟ فقال لها: صديقاً يبكي صديقه. إن مثل هذه الأقوال وهاتيك الأفعال لتوضح لنا شخصية محمد وترينا أنه كان أخا الإنسانية الرحيم الذي بعثه الله رحمة