واسع الغنى، فوزع ثروته على فلاحيه وعاش فقيراً. غاية الأمر أن عروة هذا سبقهما في النبل بنحو ألف سنة.
(والخلاصة أننا نرى في الحياة الجاهلية البدوية نوعين متميزين من الشبان: (أبناء الذوات)، قد يجتمعون ويتخذون لهم محلاً مختاراً، ويعيشون عيشة إباحية، فيها خمر، وفيها غناء، وفيها نساء. وهم مع ذلك كرام، يضيفون من نزل بهم، ويغدقون عليهم من خيرهم. وتقابلهم طائفة أخرى من أبناء الفقراء يسمون الصعاليك، يشاركونهم في الكرم والاشتراكية، ويخالفونهم في أن حياتهم ليست حياة دعة واستمتاع، ولكن حياة غزو وسلب ونهب، وتوزيع المال على أمثالهم. يضاف إلى ذلك فرق آخر وهو أن الفتيان يعطون ما يعطون وهم مترفعون، والصعاليك يعطون ما يعطون وهم يعتقدون أنهم مع زملائهم متساوون. وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفاً وتفضلاً، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجباً).
وفي عهد الخلافة الرشيدة أرتفع الدين بمعنى الفتوة. ورفع الإماء والعبيد إلى مقام الأحرار، فسيدنا إبراهيم في حجاجه قومه فتى، وأهل الكهف فتية آمنوا بربهم، والعبد والأمة ليسا عبداً ولا أمة، إذ (لا يقوا أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي) ولا يجوز أن تكرهوا (فتياتكم على البغاء).
وعلى العهد الأموي نجد نكوصاً إلى فتوة امرؤ القيس وطرفة بن العبد. وهب فتوة الخمر واللهو والعكوف على الغناء. وقد يكون فيها إكرام للناس وقرى للضيف وإيواء للغريب. وقد يكون من هؤلاء الفتيان اللاهين من يخرج للصيد والطرد بعدده وآلاته، وهذه الفتوة الموروثة جاهلياً، المبعوثة أمويا، تأثرت بما أخذه الفتيان عن الفرس من اللعب بالبندق، وهي كرات صغيرة من طين أو حجر أو رصاص يرمى بها على قوس لصيد طير أو نحوه. ثم حشيت بالبارود. ومن هنا سميت البندقية.
وكما كانت الفتوة في العهد الأموي متأثرة بفتوة طرفة وفتوة الفرس، كذلك كان بعض ألوان الفتوة في العهد العباسي. ونجد لونا آخر وهو فتوة المتصوفة؛ وفي هذا يقول محي الدين بن العربي:
إن الفتوة ما ينفك صاحبها ... مقدماً عند رب الناس والناس