إن هذه الظروف الطبيعية مؤثرة، كما قلنا، تأثيراً حاسما في المراحل الأولى من نشوء المجتمعات ونموها. وهي التي، في الأغلب، تبعث في مجتمع ما الحركة والجدب والجمود، إذ تستنفذ جهوده كلها في اقتناص عيشه الضئيل وتحصره في دائرة ضيقة يصعب عليه اجتيازها. أما المجتمع الذي تتيسر له أسباب الحركة والنمو، ويقطع في هذه الطريق شوطاً مديداً، فإنه يصبح قادراً على التغلب على المحيط الخارجي مهما اشتد وقسا: وها نحن نراه يستخرج المعادن من بطن الصحراء، ويركب متون البحور والأجواء.
ومثل المحيط الطبيعي المحيط البشري. فإذا كان هذا المحيط هيناً ليناً لا يمكن فيه أي خطر استهان أهل المجتمع عيشهم، وانصرفوا إلى ملذاتهم، وساروا إلى الركود فالانحلال. وإذا كان العكس من ذلك خطرا كله وتغلب على المجتمع بشكل المجتمع وكبتت حيويته. وتاريخ البشرية في الشرق والغرب مليء بالأدلة الواضحة على ما تقول، فلا تحتاج إلى إيراد أدلة مفصلة، وإنما يكفينا أن نشير إلى ما تعرضت له بلادنا العربية في الستمائة السنة الأخيرة من غزوات خارجية جامحة وضروب في الحكم الأجنبي المستأثر امتصت حيوية أرضها وسكانها، وجعلتها تركد وتعجز عن الإنتاج بأي شكل من الأشكال. أما الحالة المؤدية إلى الحركة والنمو فهي وجود الخطر - وإحساس المجتمع به - وما يتبع هذا الإحساس من بعث للهمم، وإثارة للنشاط، وتعبئة للجهود.
ولا تقتصر حيوية المجتمع المتحرك على التفاعل بينه وبين محيطه الخارجي: الطبيعي والبشري، بل تتمثل أيضاً في تفاعله الداخلي: بين أفراده، ومنظماته، وطبقاته. فالعلاقات البشرية في المجتمع الراكد علاقات بسيطة، قليلة التغير. أنا في المجتمع المتحرك، فهي تزداد على الأيام تطورا وتعقدا. والحيوية المنصرفة إلى الخارج لا تلبث أن تضعف وتنحل إذا لم تصحبها حيوية في الداخل تؤدي إلى نمو في شتى دوائر المجتمع: في العائلة، والمدرسة، والدولة، وسواها. بل نقول إن التفاعل والنمو في داخل المجتمع هما أصدق دليل على مقدرته على مجابهة المحيط والصمود في وجه قوى الخارج.
وخلاصة القول أن المجتمع المتحرك الديناميكي هو مجتمع متطور، متفاعل مع محيطه الطبيعي والبشري، ومتفاعل في ذاته داخليا.