للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن ليس كل حركة تقدماً، ولا كل تطور نموا وارتقاء. فما هو السبيل إلى ضمان هذه الأهداف المنشودة؟ وإذا أردنا نحن في البلاد العربية أن ندفع بمجتمعنا العربي إلى الأمام فكيف نأمن أن يكون انبعاثه من ركوده، وتحركه من جموده من جموده، مؤديين فعلا إلى نمو وتقدم، وغير مقتصرين على مجرد الحركة والتغير؟ وبكلمة أخرى، ما هي المقاييس التي يقاس بها تقدم مجتمع على آخر، أو درجة التقدم أو التأخير في نفس المجتمع؟

توضيحاً لتفكيرنا في الموضوع الأساس أتقدم ببضعة مقاييس عامة لا بصفة نهائية حاسمة بل بصفة تمهيدية تجريبية، لعلها تكون أساسا صالحاً للبحث، وخطوطاً عامة نسترد بها هذا الميدان الواسع المتشعب.

أول هذه المقاييس، في نظري، هو مبلغ سيطرة المجتمع على الطبيعة وقدرته على ضبط قواها واستغلال مواردها. فالمجتمع الذي تحده قوة الطبيعة أو تتغلب عليه يكون عبداً لها خاضعاً لسلطانها، ويظل متأخراً عن سواء من المجتمعات التي سبقته في هذا المضمار. وتأخره عنها يكون في ناحيتين أساسيتين: الأولى سلبية والثانية إيجابية. أما في الناحية السلبية فيقي عرضه لأحداث الطبيعة وفعل عناصرها المادية والحية، يتحكم فيه نوع الأرض وشكلها وموقعها، ودوران الفصول، وتقلبات المناخ، وتتسرب إليه الجراثيم الفتالة، والأعراض الفتاكة. فهو، من هذا القبيل، مغلوب على أمره، مستعبد لمحيطه الخارجي. ثم هو محدود من الناحية الإيجابية أيضاً لعجزه عن استدار غنى الطبيعة، واستخدامه لتحسين معاشه وترقية حياته ماديا وأدبياً. وما دام ضئيل الإنتاج، مهدداً بالفقر والمرض، فهو حتما متأخر عن سواه، وغبر مجهز للسير في ميادين التقدم والرقي.

والمدينة الحديثة إنما تمتاز عن المدنيات السابقة في هذا المضمار، ولا حاجة بي هنا إلى التفضيل والإيضاح، فلأمر ظاهر بين دون دليل أو برهان. وإنما يجدر بنا أن نلاحظ أن المدينة الحديثة هي، من هذه الجهة، وحده غير متجزئة. ولا يغرنا اختلافها في نواحي أخرى، فهي في هذه الناحية متفقة كل الاتفاق. لننظر إلى القوتين الجبارتين اللتين تتنازعان العالم اليوم الغربية التي تتزعمها أمريكا، والقوة الشرقية التي تقودها روسيا، نجد أنهما كلتيهما قائمتان على الحرص الشديد والقدرة الجبارة على استثمار الطبيعة واستغلال مواردها. في كل منهما، في الولايات المتحدة وروسيا على السواء، وفي الدول الأخرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>