وتعليمي، يجب أن تبنى أولا على هذه الأركان المتسلسلة: آلة، تكنيك، اقتصاد، إنشاء. فيها يتحرك مجتمعنا وتسري فيه الروح الديناميكية التي تيسر الوسائل لملية كيانه أولا ولنقدمه في النواحي الأخرى ثابتاً.
على أن هذه الوسائل الإنتاجية الاستثمارية لا تأتي عفوا ولا تهبط من علو. وإذا استمددناها من سوانا فهي لا تبقي لنا ولا تعمل في مصلحتنا إلا اكتسبنا معها القوى الأصيلة التي ابتدعتها. والشعوب التي تقدمتنا في هذا المضمار لم تنلها إلا بعد أن حققت شرطها الأساسي وباعثها الأصلي: وهو التحري عن الحقيقة والأسلوب العلمي المنضبط والنتائج العلمية المحققة المتراكمة. هو العقل النامي المنتظم في نفسه المنظم لسواه.
ولا جدال في أن العقل الإنساني هو من أعظم القوى التقدمية في الوجود، فهو ما ينفك يبحث عن المجهول ويغتبط باقتحامه. وما اقتحام الرائد للمناطق المعزولة الصعبة بأيسر من اقتحام العالم للمجهول من أسرار الطبيعة والإنسان، وما نجاحه فيها أعظم، أو السرور الذي يبعثه في نفسه أشد. بل العالم هو في جوهرة وكيانه رائد ممتاز لا تسعد نفسه إلا بالمغامرة والتقدم.
ثم إن العقل المتمثل في جهد العالم الرائد ملح مستمر في تقدمه. فإن لم يطغ عليه ما يطفئ جذوته أو يبطل عمله سار من خطوة وقبض على حلقة من سلسلة الحقيقة المترابطة. وهو لا يقف عند حد ولا يرضى بحال، بل يندفع دوما إلى الأمام منقبا باحثا مكتشفا. هذا هو منطقة وكيانه وهو فيه منسجم مع منطق الحقيقة وكيانها.
ثم هو بعد هذا وذاك منتظم في تقدمه. فالخطىالتي يقبض عليها متماسكة. ذلك أن جوهر الحقيقة التي يسعى إليها ويتقيد بها ويخدمها جوهر متماسك متحد. وليس معنى هذا العالم لا يخطئ ولا يخرج عن السبيل السوي، فكثير ما وابتعد وضاع وضيع، ولكن الأسلوب العلمي المنبعث عن طبيعة العقل وجوهرة كفيل برده إلى الصواب والعبرة ليست الضلالات العريضة، بل في السير الأساسي المتصل والسلسلة المترابطة الحلقات. إن بناء العلم بناء متماسك الأحجار! وإذا اتفق أن وضع حجر فاسد فيه فالجهد العلمي خليق بأن يكتشفه يوما فيطرحه وكل ما بني عليه.
فالعلم، بجوهره الخالص وتقليده الإيجابي الأصيل، تقدمي. وتقدميته تتميز بالتطلع