والاستمرار والانتظام. ولذا كان مقياسا من أهم المقاييس التينقدر بها تقدمية مجتمع من المجتمعات. وهو من الناحية العلمية التطبيقية، أساس المقياس الأول: أي قدرة المجتمع على الطبيعة، لأنه، كما ذكرنا، الباعث الأقوى للعمل الإنتاجي الاستثماري. على أن أيضاً ناحيته التي يتجلى فيها مقدار الحقيقة المكتسبة والمجهول المكتشف. فإذا أردنا أن نقارن مجتمعين من حيث التقدم والتأخر، أو نقيس تقدمه مجتمع ما، أمكننا أن نركن إلى هذا المقياس: إلى درجة اكتساب المجتمع للأسلوب العلمي وخضوعه لسلطان العقل، والى مقدار الحقيقة المتراكمة التي يملكها ويؤمن بها ويسير على هداها.
وإذا أراد مجتمعنا العربي أن يكون تقدميا فعلا وجب عليه أن يتمسك بهذا العنصر التقدمي الحي، ويؤمن به، ويجعل سيرة مظهرا صادقا له، وحياته تجسدا لإيمانه به وبالحقيقة التي يؤدي إليها.
ترى أيكفي هذان المقياسان مقياس على الطبيعة ومقياس الاكتساب العلمي كيفية وكمية لقدر تقدمية المجتمعات؟ إن النظر الدقيق ليظهر أن هذين المقياسين لا يستنفذان التقدمية الصحيحة. ذلك أن استثمار الطبيعة هو، في الواقع، عامل مساعد أكثر منه عاملا أصيلا. فهو يهيئ الوسائل للتقدم ويدفع المجتمع قدما في جوهره وتمامه إلا إذا توفر له عامل آخر مستقل عنه. إنه يعد الأسباب ويهيئ ويجهز النتائج لكنه، بنفسه، لا يقر الغايات التي يجب أن توجه إليها الأسباب والقوى والنتائج، إنه يضع بين يدي المجتمع موارد وافرة استخرجها من الطبيعة وثروات استمدها منها وقوى فجرها من بطونها ولكن، ترى، لأي شيء يستخدم المجتمع هذه كلها؟ للبناء والتعمير أم للهدم والتدمير؟ للتحكم والاستئثار أم لنشر العدل والمساواة؟ للحرب أم للسلم؟ للتقدم الشامل المتوازن أم للتقدم الجزئي المضطرب؟
كذلك يقال عن العلم نفسه، وهو المقياس الثاني الذي اتخذناه. إنه يستكشف الحقيقة والحقيقة وحدها غالية ومبتغاه. ولكن من الذي يستخدم هذه الحقيقة ولماذا؟ هو أمر خارج عن سلطته، أو لعل العالم يساعد، عن وعي أو غير وعي، في استخدام الحقيقة لأغراض هدامة إلى التأخير والهلاك في حين أنها وجدت لتخدم التقدم والانبعاث.
فلضمان التقدم الصحيح لا يكفي توفير الوسائل؛ بل يجب تحقيق الغايات الصحيحة التي