إن تاريخ جهاد (الرجل القرآني) طويل. . ولكن أخصب سنواته أيام الحرب. . منذ أن خرج من المعتقل عام ١٩٣٩، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها، عن الأحزاب، وعن السياسة، وعن كل شئ، كان الرجل لا ينام، كان يسعى ويطوف ويذهب إلى كل قرية، وكل نجع وكل دسكرة يفتش عن الشباب، ويحدث الشيوخ، ويتصل بالعظماء والعلماء، ويومها بهر الوزراء، وأعلن بعضهم الانضمام إلى لوائه الخفاق، وجيشه الجرار
وحاول الإنجليز أن يقدموا عروضا سخية. . فرفضها الرجل في إباء. ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ
لقد كان يحب فكرته حباً يفوق الوصف، ولم يكن في صدره شيء يزحم هذه الدعوة. كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء! لا يجهده السهر، ولا يتعبه السفر، وقد أوتي ذلك العقل العجيب، الذي يصرف الأمور في يسر، ويقضي في المشاكل بسرعة، ويفضها في بساطة، ويذهب عنها التعقيد
كان لا يحتاج إلى الإسهاب ليفهم أي أمر، كأنما لديه أطراف كل أمر، فما أن تلقى إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد، بل أحياناً كان يجهر بما تريد أن تقول له، ويفتي لك فيما تريد أن تسأل عنه
كان نفاذ البصيرة، نقادها، يرى ما وراء الأشباح، فيه من ذلك السر الإلهي الصادق قبس
كان يلتهم كل شئ، لا تجد علما ولا فكرا ولا نظرية جديدة في القانون، أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب، لم يقرأها ولم يلم بها، ولم يحاول أن يفيد منها لدعوته وفكرته
ولم تكن هناك دعوة ولا نزعة ولا رسالة، مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب، في القديم أو في الحديث. . لم يبحثها أو يقرأها أو يدرس أبطالها، وحظوظهم من النجاح أو الفشل، أو يحمل منها ما يصلح لتجاربه وأعماله
وكان يقول كل شئ، ولا تحس أنه جرح أو أساء. . وكان يوجه النقد في ثوب الرواية أو المثل، وكان يضع الخطوط ويترك لأتباعه التفاصيل
كان قديراً على أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه وعلى طريقته، وفي حدود هواه، وعلى