ستردك من ذي الفحش حقك كله ... بحلمك في رفق ولما تشدد
وبالعدل فإنطق إن نطقت ولا تلم ... وذا الذم فاذممه وذا الحمد فاحمد
ولا تلح إلا من ألام ولا تلم ... وبالبذل من شكوى صديقك فاقتد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن ييسر في غد
وللخلق إذلال لمن كان باخلا ... ضنينا، ومن يبخل يذل ويزهد
هذه الحكمة الرائعة إنما هي خلاصة تجارب عدي في حياته بعد أن بلا مر الناس ومر الأيام، وبعد أن لم تحقق له الأيام ما يصبو إليه، وبعد أن تبصر في مصير الناس - فقراء وأغنياء - بعد هذا كله، وبعد أم كون رأياً عاماً وفلسفة كاملة، لم ير خيرا من هذا الذي قدمه لنا في أبياته السابقة. وهي فلسفة تحنو على الضعيف، وتدعو إلى الرفق والحلم، وتعترف بتقلبات الأيام واختلاف الحظوظ، وترى أن أخذ الحياة بالجد والحيطة أتم وأرفق، وترى أن تكافئ الإحسان بالإحسان، وأن تؤدب نفسك، وتحفظها عن الغي والضلالة. والمعنى السارب في هذه الأبيات هو كف النفس وأخذها بالحكمة والحزم والحذر
وكان طواف عدي بالبلاد نعمة عليه ونقمة أيضاً. نعمة عليه لأنه اتسعت مداركه، وعرف كثيراً، وأحاط بكثير من أحوال الملوك والدول، وصقل نفسه وهذب عواطفه. ونقمة لأنه عرف كنه كثير من الأشياء، وعرف إختيان الناس بعضهم بعضا، وعرف كثيراً من الأحوال المشجية والمبكية، وهذا جعله يسئ الظن بالأيام والناس، فاصطبغت نظرته إليهما باليأس والقنوط. ونقمة لأن خلاطا بالناس، واختلافه إليهم واختلافهم إليه، وهم ذوو ألسنة متعددة ولغات متباينة وثقافات مختلفة، أثر في عربيته إلى حد دعا إلى الاحتراس منه. لأن طول العشرة ودوام المخالطة يدعوان الإنسان - رضا أو كرها - أن يأخذ عن مخالطيه ومعاشريه كثيراً، يأخذ من عاداتهم وآدابهم، ويتأثر بأذواقهم، وينحو منحاهم، ويميل إلى ما يميلون إليه، وقد يستعير منهم بعض ألفاظهم، ويصوغ أساليبهم، فتتأثر بذلك لغته، ويدخلها وهن لم تكن تعرفه من قبل
وهذا ما حدث لعدي بن زيد. وهو نفسه ما دعا ناقدي العرب إلى التنبيه إليه والاحتراس منه، فهم قد انتقصوه وحذروا من الاحتجاج بشعره، وذلك لخلطه بكثير من غير العرب من الفرش والروم