والمعروف عن الفترة التي ولد فيها الشاعر ونشأ فيها، أنها كانت مليئة بالفتن والاضطرابات، إذ أنه ولد قبيل سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكوفة التي ولد بها وتربى فيها كانت مركز نشاط مناهضي الحكم الأموي من عباسيين وعلويين، وكانت لذلك مسرحا لكثير من مناظر ذلك النضال المرير، كان معنى ذلك أن الشاعر قد رأى وسمع أثناء طفولته بكثير من تلك الحوادث الدامية. وجدير بمثله أن يضيق ذرعا بالحياة والأحياء، وأن ينظر دائما إلى المستقبل نظرة اليائس المتشائم. وإنه لمن المؤكد أن روح اليأس والقنوط التي يصادفها القارئ لشعر أبي العتاهية، قد تمكنت من نفس الشاعر منذ ذلك الحين المبكر ولا سيما إذا لاحظنا أن أباه كان حجاما وكان بطبيعة عمله من ألصق الناس بتلك المناظر الدامية.
وإذا كنا بالرجوع إلى بيئة الشاعر وطفولته قد استطعنا أن نهتدي إلى أحد تلك العوامل التي أدت إلى شيوع روح التشاؤم في شعر أبي العتاهية فليس بمعيينا أن نتلمس الأسباب التي دفعت به إلى الحقد الشديد على ذوي اليسار والجاه من بني عصره حقدا يظهر واضحا في إنتاجه الأدبي بعد سنة ثمانين ومائة للهجرة، كما سنذكره في حينه. وقد اتضح لنا من تلك الدراسة التمهيدية أن نقمته عليهم كانت أثرا من آثار الضعة والخمول اللذين أحاطا بنسبه. فقد كان آباؤه من التفاهة بحيث لم يكن لهم نسب معروف، فهو عربي في قول بعض الناس ومولى على رأي آخرين. ثم نراه يضطرب في ولاءه فيتولى مندلا وحبان العنزيين تارة، ومنصور بن يزيد خال الخليفة تارة أخرى. ولكن ذلك الغموض والخمول لم يكن كل ما يفسد على الشاعر حياته كلما ذكر آباؤه وأجداده، فهناك والده الذي كان يشتغل حجاما، وقد كان ازدراء الناس لتلك المهنة وأهلها شديدا، ولا أدل على ذلك من الفقهاء - برغم ما ينادي به الإسلام من مساواة بين جميع المسلمين - لم يجدوا بدا من الخضوع لتقاليد العصر والحكم بعدم جواز زواج ابن الحجام من طبقة غير طبقته إلا في حالات خاصة، كأن الخزي والعار الذي ألصق به شر مستطير يجب ألا يتعداه إلى سواه.
ولدينا من الأدلة ما يثبت أن أبا العتاهية كان وهو لا يزال صبيا يشعر بضآلة شأنه ويتألم لموقف مجتمعه منه ونظرته إليه. فالأغاني يحدثنا أن قصابا تشاجر مع أبي العتاهية وشج