يستحيل فكيف يتمكن الطالب من الاتصال بأستاذه صلة تقرب له مناهل التثقيف. والتعمق في المواد
الحال في الكلية إذن أن الطالب على نفسه رقيب، فالأب لا يعرف عن أبنه شيئا، والأستاذ لا يعرف عن تلميذه شيئا. والطالب لم يتعود الميل إلى الثقافة حتى يحاول أن يثقف نفسه. والمواد التي تدرس له يحفظها غصصا رغم أنفه في الشهرين الأخيرين من العام لينجح فقط. وإذا لم يتسع له الوقت فبحسبه أن يذاكر نصف المواد، ويترك النصف الآخر إلى الدور الثاني، وإن ازداد الوقت ضيقا فليذاكر الأجزاء المهمة من مواد الدور الأول، ويعتمد على الحظ من بعد الله، وهكذا لا يتاح للطالب الجامعي أن يدرس حتى المواد المقررة عليه جميعا، فهو قد أضاع العام في الانتقام من الأعوام الماضية ويكاد يكون من المقطوع به أن الطالب الجامعي حتى إذا درس هذه المواد فإنها لا تكفيه حتى يقال عنه مثقف
إنني آسف كل الأسف إذ أقرر أن الشهادة لا تعني مطلقا أن حاملها قد تثقف، بل أعتقد أن الشهادة قد تقف بالمرء عن التثقيف، لأن أغلب حامليها يمسهم الغرور فيعتقد المتخرج منهم أنه أصاب ما لم يصب الأولون والآخرون، فإن سعى إليه الحظ بوظيفة ما مهما كانت بعيدة عن المؤهلات العلمية اكتفى وحمد الله، وقبل راحتيه من ظهر لبطن، ثم نسى ما تعلم فيضيع منه ما كان يجوز أن يصبح أساسا لثقافة معينة إن هو حاولها
أجدني مضطرا لأن أعقد شبه مقارنة بين هذه الحال وبين الحال في الغرب حيث يهتم المربون هناك بالشخصية الأدبية منذ بدء تكوينها، فيرسون الأسس السليمة والطفل ما زال في الرياض، ولعلكم تدرون أن أساتذة رياض الأطفال هناك هم أعظم الأساتذة تثقيفا، وأخبرهم بالنفس وتكوينها، فهم الذين يخلقون العجينة الأولى ويهيئونها لتتداولها بعد ذلك أيدي صناع تتعرف عقليات الطلبة وتتمشى معها، فيجد الطالب نفسه محاطا بجو اجتماعي صالح لتكوين سليم في كل مراحل تعليمه، ومن حوله الأساتذة يهدفون دائما إلى أن يقيموا رجالا قد اكتملت شخصياتهم، بعيدة عن العقد النفسية، وإذا كان علماء النفس قد أقاموا تقسيمات ثلاثة من المعرفة والوجدان والنزوع، فإنهم في الغرب يولون هذه الأقسام جميعا عنايتهم دون أن تطغي واحدة منها على الأخرى، وفي حين نعني نحن بالمعرفة فحسب، لا نتمكن حتى من نوالها، وإنك لتجد التعليم هنا يرهب اسم الغرائز ولا يجرؤ على ذكرها،