يسكن قليلا. . وجعلتانظر إلى خارج الدار. أتأمل الغيث إذ يتساقط على أحجار الشارع الملساء، والضباب الخفيف وقد انتشر في سائر الأرجاء. والمصابيح وهي تبدو ضئيلة فاترةخلال الضباب والغيث. وكأنها أشباح اليقين وسط دياجير الشك.
لم يطل تأملي لذلك المنظر حتى عاد بي الخاطر إلى موضوع الكتاب الذي بيدي. . وانتقل بي التفكير من الإسلام إلى البلاد التي تدين بالإسلام. وجعلت أنظر بعين الوهم إلى تلك الأفكار، التي يفصل بيني وبينهاآلاف الأميال. وأخذت ترتسم أمامي صورتها شيئا فشيئا. .
ليت شعري ماذا في بلاد الإسلام من روح الإسلام؟ وماذا في بلاد التوحيد من التوحيد؟
غشيني شيء من الذهول. ورسم الوهم أمامعيني صورة مروعة مفظعة هائلة، لتلك الأقطار القاصية. .
رأيت البلاد. قد حلق فوقها عقاب البغي، باسطا عليها جناحيه، ومنشبا فيها أظفاره، وقد خضعت لسلطانه الرقاب، وعنت لخشيته الوجوه! وهلعت الأفئدة. وذلت الأعناق، ورغمت الأنوف! وانطلقت الأفواه تسبح بحمده، وتمجده، وهو لا يزداد إلا بغياً وعتواً، والأعناق لا تزداد إلا خشوعا وذلا.
وتبدلت الرؤيا بعد ذلك. . فأبصرت هيكلا عظيم البناء، لا يبلغ الطرف مداه. ورأيت الناس منطلقين إلى أبوابه الكبيرة، ليقيموا الشعائر. . زمر تسعى إثر زمر. . جموع تتجاذب وتتدافع، ويموج بعضها في بعض. . ولا تكاد الأبواب تحتويهم على سعتها. . . . . .
ثم انكشف الغطاء وأبصرت ما بداخل الهيكل. . فإذا أوثان هائلة، قد نصبت في أرجاء الهيكل. ومن دون كل صنم مذبح عظيم تقدم إليه القرابين، ويحرق عنده البخور. والناس من حولها بين قائم وقاعد وركع وساجد. .
نظرت ذات اليمين فإذا صنم جبار أصفر اللون، براق لامع، ما شككت في إنه (مامون) إله النضار. إن لم تنم عنه صورته فقد نم عنه رواده وقصاده. جنود مجندة وكتائب محتشدة. قد أقبلت على عبادته بأيد ممدودة، ووجوه تفيض شرهاً وجشعا.
وقد حمل كل عابد قربانه: هذا يقرب الشرف، وذاك يذبح الدين، والآخر يقدم الوفاء والميثاق، وذلك يقرب وطنه الذي نماه وغذاه، وصاحبه يقدم الأهل الذين أنجبوه. . . . . .