شعوباً لأن لكل شعب أمنية يفيض بها قلبه، أمنية تستغل حياته وتأخذها من أقطارها لا تلبث أن تستحيل إلى مادة حية في أغنية خالدة مقدسة. ما لي أنسيت الحديث؟ لقيتها مرتين مواظبة على محاضرات (أحلام معتزل) لجان جاك روسو. إنها تلتمس عنده في ساعات عزلته، ما يسمح على جراح نفسها. إنها قد نسيت الماضي، الماضي البعيد والقريب، وما كانت تحب أن تثير هذه الذكرى، فإنها قد تجاوزت منطقة الألم، واستراحت إلى نسيان يوشك أن يسبغ الطمأنينة والهدوء على قلبها، وكانت نفسها صحيحة لم تكسر، مشرقة لم تنطفئ، وإن كان يسبح في جبينها الهادئ شعاع شاحب ترف على حواشيه ذكريات خافته، تدافعها بالصبر والأمل، وقوة الإيمان بحياة جديدة
وكان شأني يضيق بمعاونة تغنيها، ولم أجد غير سيدة تركية هي وزوجها مثل عال لحضارة الإسلام في باريس، قلت لها: إنها كما ترين حزينة كسيرة وما أحسبها تحسن الكثير من عمل المنزل، وما أحسبها إلا حملا عليك لن تضيقي به، ولها من ثقافتها في منزل شرقي ما يهيئ لها الحياة فيه، فطالعت السيدة أسارير وجهها، فلم تشهد تمردا، ولم تر أثرا لهذه النكسة التي تطبع على وجوه المغلوبين في حياتهم الساخطين عليها، فابتدرت قائلة (فإبنتي إليها منذ اليوم) ثم استدركت مستعجلة (معلمتها لا خادمتها) ثم التفتت إلى زوجها كمن تطمئنه على نهوضها بحياتها (وعندي لها من ستسعد يهن ويسعدن بها، وأن تضيق بحياتها من نشأت في سويسرا الفرنسية. . .)
مضت أيام لقيتهم بعدها، وكان السيد التركي كعادته يقضي الساعات في مكتبته، رأيته أشبه ما يكون بالمستغرق في حلم. فلم أشأ أن أقطع عليه تأمله، حتى انتبه متهلل الوجه سروراً (إنه شعر حسن جميل) قلت لمن؟ قال لشاعر تركيا عارف حكمت الهرسكي، ثم أقبل يقرأ، ولكن صوتا آخر قطع عليه قراءته، صوت أحسب أني سمعته قبل اليوم، فاتجهت نحوه فإذا في الحجرة القريبة منا قد جلست هيلين وإلى وجوارها طفلة في العاشرة من عمرها، ومن حولها ثلاثة من فتيات تركيا الحديثة، أقبلن للدراسة في باريس، ولا غنى لهن عن دراسة اللغة، سمعتها تملي عليهن قطعة لأندريه جيد، يصف فيها سمات الإدراك والفهم، تجري في أسارير طفلة بكماء قام على تربيتها قس سويسري، حتى أدركت الأصوات وفهمت الحديث يجري من حولها (. . . لقد نبضت سماتها بالحياة فجأة، وجرى في جبينها