تلحظ ذلك واضحاً في سياحته الثانية في أوربا عندما يترك الآثار والتاريخ والمجد والشهرة والشعوب وماضيها وينحاز إلى جانب الطبيعة، فيتحدث إليها في شعر عذب رقيق، فيقول:(إن الطبيعة المحبوبة لا تزال أبر أم بنا، ومع أنها دائمة التغير فهي باسمة دائماً، فدعني أرتمي على صدرها العاري الحنون، فإنها لم تفطم ابناً وإن لم يكن عزيزاً لديها. . . إنها أجمل ما تكون في مظاهرها الوحشية حيث لا شيء إلا السذاجة والفطرة والبعد عن كل زينة وصنعة. أنها تبتسم لي دائماً، ليل نهار، مع أني أرقبها حيث يخلو الطريق من الناس، وأبحث عنها في دأب وصبر، وأحبها في شغف وكلف عند الغضب. . . . أيتها البحيرة الساكنة السطح الراقدة الماء. لقد لجأت إليك في هذا العالم الصامت. إن فيك لدفئاً لفؤادي، وإن في مياهك الهادئة لراحة لنفسي وسلواناً. . طالما أحببت اصطخاب البحر وزئيره ولكن وسوسة مياهك الناعمة والهدير المردد بين ضفافك يرن في أذني حلو الأنغام كأنه صوت أختي أتاني خلال مياهك. . . إن أقوى اللذات لا تبعث بروحي هكذا. . .
. . . هاهو الليل. . أيها الليل الجليل. إنك لم ترسل للنوم. دعني أقاسمك أنسك ووحشتك، وأتلاش في العاصفة وأفن فيك. . كيف تضيء البحيرة، وكيف يلمع البحر ويأتي المطر راقصاً مهتزاً إلى الأرض. .)
. . . قد يقول قائل إن الطبيعة المصرية خلو من مناظر سويسرا، مفتقرة إلى الجبال الشامخة والوديان العميقة والبحيرات الجميلة. فهي طبيعة هادئة لينة أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. وقد يشتط في القول فيعلل ضعف أثر الطبيعة في نفوس شعرائنا المصريين بعدم وجود الهيارات الثلجية والجو القارس الذي يبعث النشاط والحركة. قد يكون لهذا الاعتراض بعض وجاهته. وقد تكون الطبيعة المصرية مفتقرة إلى هذا العنصر من عناصر القوة، وقد تكون الطبيعة المصرية متشابهة المناظر موحدة الصور. فقد لا يشعر المسافر من الإسكندرية إلى أسوان باختلاف كبير في طبيعة وادي النيل، فقد يجد سهولاً مترامية تكسوها النباتات الخضراء في أراضي الدلتا. وقد يجد وادياً ضعيفاً تكتنفه على الجانبين جبال تتفاوت في البعد والقرب في إقليم الصعيد
قد تكون وحدة الصور هي التي عملت على أضعاف اثر الطبيعة في نفوس شعرائنا فجعلتهم ينصرفون عنها، ويستوحون طبيعة أوربا ذات الصور المتعددة والأشكال المتباينة.