للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كان يعني بما يقول واحداً منهم، على أن الشاعر يبدي لنا رأيه في الرشيد بصراحة وذلك في أبيات يبدؤها بقوله:

إن الملوك بلاء حيثما حلوا ... فلا يكن لك في عيش لهم ظل

ومما يحمل على الاعتقاد بان أبا العتاهية إنما كان يعني بما يقول هارون ما أخذه الشاعر على الملوك من الملل حين يتحدث إليهم متحدث، واتهامهم الناصح بالغش وذلك يمثل حال الشاعر مع الرشيد بالذات، لأنه الخليفة الوحيد الذي كانت علاقته بالشاعر تسمح بمسامحة أحدهما للآخر، ومن ثم تعطي فرصة لحديث معاد مملول أو نصيحة غير مقبولة.

والآن وقد وقف القارئ الكريم على طبيعة ما كان بين أبي العتاهية والرشيد من علاقة يسرنا أن نشركه معنا في تدبر القصة التالية: يروي أبو الفرج أن رسول ملك الروم قدم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية وأنشد شيئا من شعره وكان يحسن العربية، فمضى إلى ملك الروم وذكره له فكتب ملك الروم إليه ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية يأخذ فيه رهائن من أراد وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في أمر سفره فأباه، واتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما:

ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك

ألا لنقل السلطان عن ملك ... قد انقضى ملكه إلى ملك

ألا توافقنا على أن في هذه القصيدة شيئا من الغرابة؟ فإذا صح أن سفير الروم كان يعرف العربية وكان لذلك يتذوق شعر أبي العتاهية فما بال ملك الروم يتطلع إلى سماع شعر أبي العتاهية هو الآخر؟ فهل كان يعرف العربية أيضا؟

ومهما يكن من شيء فنحن نشك في أنه كان متحمسا لشعر أبي العتاهية تحمسا يدعوه إلى أن يلح في طلبه ذلك الإلحاح، وأكبر ظني أنه كان يريد استغلال الشاعر استغلالا سياسيا على نحو ما تفعل الدول اليوم من اجتذاب أحد أبناء الشعوب المشتبكة في حرب معها إليها، وتسخيره للدعاية ضد الحكومة القائمة في وطنه. فما من شك في أن جواسيس كثيرة كانت تعمل إذ ذاك لصالح الروم وكانت تتخذ من بغداد مركزا لنشاطها، وما من شك في أن الروم كانوا على علم تام بأساليب تلك الدعاية وآثارها، ألا ترى أنهم استغلوا رجلا آخر

<<  <  ج:
ص:  >  >>