قبل أبي العتاهية وهو يونس بن أبي فروة الذي كتب لهم كتابا فيما أخذه الإسلام من معايب بزعمه. فما الذي يمنعهم حين علموا ما علموا عن بغض أبي العتاهية للرشيد من استقدامه إليهم وإعطائه فرصة كاملة لتسجيل ما كان يأخذه على الرشيد من ميل إلى اللهو وعكوف على الملذات واستهتار بالدين. وليس هناك أدنى شك فيما كان يمكن أن تحدثه تلك الأشعار من أثر شيء في روح جيش الرشيد المعنوية، فقد كان كثيرا من أولئك الجنود يذهبون إلى حرب الروم والحماسة الدينية تملأ صدورهم لما يعتقدونه من عدالة القضية التي يدافعون عنها، ولكن حين يتضح لهم أن حليفة المسلمين وحامي حمى الإسلام وقائد تلك الحملات ما هو ألا رجل خليع مستهتر وليس له من مظاهر الدين إلا احتراف الحروب ضد الروم فستخبو حماستهم وتضعف عزائمهم وتتفرق كلمتهم. ونحن لا نستبعد أن يكون ملك الروم إنما أعجب بالبيتين اللذين ذكرا فيما سبق لما يبشران به من موت الرشيد، ذلك الخصم العنيد الذي فشلت جيوش الروم في صد غاراته أو وقف حملاته. هذا ويذهب البروفيسور جيوم إلى أن ما أورده الأغاني خاصا بما كان بين ملك الروم وأبي العتاهية من مكاتبات وما كان من إعجاب الأول بشعر الأخير ليس إلا محض اختلاق أراد به مختلقة أن يبرهن على أنه كان من بين ملوك المسيحيين من هو أشد حرصا على سماع الموعظة الحسنة من ملوك الإسلام.
وإنا إذ نترك الكلمة الأخيرة في تلك المسالة إلى القارئ الكريم ليسرنا أن نعود معه إلى تلك القصائد والمقطوعات التي كان الشاعر يهدف فيها إلى تنفير الرشيد من اللهو والعبث وفاء بما قطعه على نفسه للفضل وزبيدة من عهود. وأول ما يلاحضه الباحث على تلك المقطوعات هو كثرتها وتنوعها، وقد أدى إلى كثرتها وتنوعها على تلك الصورة ما كان من ميل الشاعر الطبيعي إلى ذلك النوع من الشعر الوعظي، فقد كان ذلك اللون من الشعر يستهوي العامة فيجمعهم حول الشاعر ويزيد في حبهم واحترمهم له، وفي ذلك تعويض لما يحسه من ضعة نتيجة لضعة آبائه وأجداده.
وقد كانت طريقة الشاعر في وعظ الرشيد تختلف من وقت لآخر تبعا للمناسبات، فهو حينا ينهاه عن اللهو نهيا مباشرا وحينا يذكره بما أصابه من شيب وأحيانا يبصره بما لا بد أنه ملاقيه من موت. وهكذا تعتقد أن الشاعر كان يخاطب الرشيد بكثير من المقطوعات التي