السياسي والاجتماعي يتطلب الواقعية المحيطة الشاملة، ولاسيما إذا كان الشاعر ذات رسالة خاصة في الإصلاح والتوجيه، فهو مضطر إلى إلهاب العواطف واستحثاث الجماهير، ولن يكون ذلك بغير الحديث الواضح المعقولوهب شاعر مصلحا كالجواهري لجأ إلى الرموز الغامضة، والخيالات التائهة، والأشواق البعيدة، والسبحات الحالمة، واتخذ منها مادة لرسالته في البعث والإصلاح، أفيجد من القراء من يستجيب لصرخاته أو يحس بإحساسه وشعوره؟ هذا ما لا يعقل بحال. ويجب ألا نغفل من حسابنا أن الشعر الرمزي يحتاج إلى عقل يغوص، وذهن يعلل، مما يجعل القصيدة شبيهة بمسألة حسابية أو معادلة جبرية، وبذلك تفقد تأثيرها الساحر وتعجز عن أداء رسالة الشعر في التأثير والانجذاب. وأنا لا أنكر بعض الاهتزازات الغامضة التي تختلج في النفس حين يقرأ الإنسان بعض القطع الرمزية. ولكن هذه الاهتزازات الغامضة التي تخلق مزيجا غريبا من الحيرة والقنوط والتساؤل، وتغرق القارئ في بحر لحى لا ساحل له، وهيهات أن يرحب بالغرق عاقل حصيف، فمتى يجد هواء الحالمون الواهمون شاعرا كبيرا يقود الأذواق إلى مذاهبهم الجديدة فيمهد له سبيل الذيوع.
على أن الواقعية قد أصيبت بكارثة فادحة، تحاول أن تبغها إلى الأذواق والقلوب، فقد داب بعض المتشاعرين أن يتخذوا من الحوادث اليومية، والأخبار الصحفية مادة للنظم الواقعي فيصدموا القراء بما هو شبيه بقول حافظ إبراهيم.
ثلاثة من رجال النيل قد وقفوا ... على مدارسنا سبعين فدانا
ثم يدعون انهم يعيشون في الحياة ويسيرون مع الواقع، ويعبرون عما يجدون في البيئة من شؤون. ويجب أن يفهم هؤلاء السادة أن رسالة الشاعر الواقعي ليست هي التعبير عن الأخبار الصحفية بكلمات موزونة مقفاة، ولكنه يرى الحادثة فيتأثر بها، وتثير في نفسه انفعالات خاصة، وتصل إلى ذهنه فتوحي أليه فيضا من الإلهام الصادق، ثم تجول في خاطره ثائرة حائرة، فلا ينقذه منها غير التعبير عما تخلقه من انفعالات، وما توحي به من الهام يبرق بالومض والألتماع. وهنا تكون الحادثة نواة صغيرة لما يدور حولها من ذبذبة وانفعال؛ أما أن تكون الحادثة وحدها مصبوبة في القوالب العروضية. فالأجدر بالقارئ أن يغفلها تمام الإغفال، كتفيا بما قرأه عنها في الصحف والمجلات.