إذن أف له ما أقبحه، وما أشد بغضي له!. ناجت نفسها بكل هذا، والألم يحز في أحشائها حزاً تحس أثره اللاذع في السويداء من قلبها، وكأنها نسيت نتوء عظام كتفيها، وهزال جسمها، وشحوب لونها الأسمر الذي ضاعفه لون ثوبها الجميل؛ على حين تخلع (لمعان) من روعتها ونضارتها على ثوبها ما يزيده جمالاً وروعة
هتفت بالأختين مربيتهما: هيا قبلا أبويكما وهنئاهما بالعيد. . . لبتا الأمر، ومشت (عصمت) على استحياء والهم يملأ فؤادها المكلوم، وقد سبقتها (لمعان) - وكأنها ظبي أهيج - في خفة ورشاقة، ولكنها انتظرت مقدم أختها لتتقدمها في أداء هذا الواجب
مشت البائسة مطأطئة الرأس، مكتئبة النفس، في وجوم يكاد يكون بلادة، ثم تناولت أيدي أبويها وقبلتها، فبادلها كل منهما بقبلة، وكأنما يقبلان جثة هامدة لما غشيهما من الحزن والكآبة، ولكنهما ما لبثا أن تهللا حينما جاء دور (لمعان). .
يا لله للمحدود التعس.!! حتى في اليوم الذي يفرح فيه الناس جميعا، ويتناسى كل حزين حزنه، وكل بائس بؤسه، تطعن هذه الشقية تلك الطعنة النجلاء!
ظلت (عصمت) شاخصة، وسرى من روحها الحزين تيار قوي شل حركات الجميع فجمدوا كأنهم التماثيل، ولم يخرجهم من هذه الحال إلا (لمعان) حينما تحركت، وكأنها أدركت فجأة مقدار ما أصاب أختها من غبن وما نالها من شقوة، فجاش قلبها بالرحمة والحب، فاحتضنتها وتعلقت بها، وبذلت جهدها حتى طبعت قبلتها على جبينها، ولكن (عصمت) لم تبادلها إياها، وكان هذا عن غير عمد منها، فقد كانت شاردة اللب، كليلة الذهن، يضطرب صدرها بشتى الآلام وضروب الأوجاع، وقد أيقنت في هذه الساعة بماكانت لا تشعر به إلا محاطا بالغموض والإبهام، وحاولت أن تجزي أختها بما فعلت، فاحتضنتها وأرادت أن تقبلها، ولكنها انفجرت باكية في نشيج محزن، وأخذ صدرها يعلو ويهبط، وعيونها تفيض بغزير الدمع وهي تحاول منعه، ولكن هيهات فقد أفلت من يدها الزمام
منذ تلك الساعة (وعصمت) في هم دائم، حتى الابتسامة التي كانت تزور شفتيها لماما، وكأنها ضلت طريقها إلى الثغور الفرحة، فأوقعها سوء الحظ في هذا الثغر الحزين. . . حتى هذه الابتسامة غادرتها إلى غير رجعة، فقد أزالت تلك الدمع الحارة التي ذرفتها عيناها يوم العيد الغشاوة التي طالما حجبت عنها الحقيقة في أيامها الأولى