لأن الاحتلال يمكنه من أن يستبد ويبطش، ويلعب ويستخف، دون أن يناقش أو يحاسب، والزعماء من خلفه يلهون ويعبثون ويرضون من الأمر بالحكم تارة وبالألقاب تارة أخرى، والشعب مغلوب على أمره يقنع بالرضا والتسليم. وثقوا مرة أخرى بأنه لن يخلص البلد من الشر بشتى ألوانه إلا إحدى وسيلتين لا ثالث لهما: زعيم صادق ينفخ في روح الشعب حتى يهب من نومته، أو ضابط شجاع يضع روحه فوق كفه، وإذا وجد الزعيم الصادق فليس من السهولة أن يحيي شعبا نكبه الحكم الإقطاعي حتى وهن وأثقلته أنات الاستبداد والبطش به حتى سكن، وإذا وجد الضابط الشجاع فليس من الميسور له أن يطبع الجيش على طابعه، بعد أن آل أمره إلى الجهلة المستغلين، وتغلغل بين صفوفه كثير من الوضعاء في أخلاقهم وشخصياتهم.
لقد طال بنا الحديث ولم يتصرف أنظارنا عن قصر المنتزه سوى منظر الشمس في لحظاتها الأخيرة. والبحر يتأهب ليفغر فاه فلتقمها في بطنه، أجل طال بنا الحديث ونحن لا ندري أننا كنا مع القدر حين سطر نهاية الظلم الجاثم فوق صدر مصر، وإن أنظارنا لم تتحول عن القصر إلا لتودع شمسا لن تشرق عليه مرة أخرى، وأننا حين كنا نتحدث عن آلام مصر وأنات شعبها، كان في العباسة بالقاهرة أسود تخفق نبضات قلوبهم من أجل مصر وشعب مصر، أصروا على أن يضعوا حدا للفساد الذي بلغ الذروة، والفوضى التي وصلت القمة، والهمجية التي فاقت همجية القرون الوسطى، ولم يكاد الليل أن ينتصف حتى منحت الدنيا مصر صبحا جديدا وعهدا مشرقا، كتب لها فيه الخلود، ولجيشها البطولة، ولشعبها الكرامة إلى الأبد. . .
كانت وثبة جريئة مباركة، أمدها الله بقوته، وشملها بعنايته، وهتف لها الشعب من صميم قلوبه وأعماق نفوسه، وأدهشت العالم بحسن تدبيرها، وحزم تنفيذها، وإيمان القائمين بها، وغيرت مجرى التاريخ في بلد ظل مجراه راكداً فيه سبعين عاما، ومحت عارا أسكن مصر الحضيض وأنزلها منزل الدول الراكدة المتخلفة عن الحضارات والنهضات. . .
إنها فرصة أوجدها جيش مصر الباسل للشعب لعله يخلق نفسه خلقاً آخر لا تشوبه شوائب الدعة، وللأحزاب لعلها تضع المناهج والبرامج التي تنهض بمصر، وللزعماء لعلهم يبدءون عهدا جديداً فيما يفيد الوطن، ولدعاة الإصلاح لعلهم يرسمون خطط الإصلاح