للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فأخذ فورلاند يتهدد وتوعد تارة، ويلين ويتذلل تارة. وكان كل ذلك عبثاً. فلمح إليهم بالرشوة، ولوح لهم بالمال. وقد رفع المبلغ حتى أضحى يغري المرء على مخالفة ضميره والإخلال بواجبه، فنظر إليه العامل نظرة شزراء مليئة بالتهكم والازدراء. ثم أدار عنه وجهه واستغرق في عمله.

فخرج فورلاند يلتمس الهواء البارد الرطب عساه يلطف من هاته النار التي تضطرم بين أضلعه اضطراماً ولعله يخمد ذلك السعير الذي يحتدم في أحشائه احتداماً.

وتراقصت على صفحات ذهنه كلمات الكولونيل التي طالما صوبها إليه معرضا به قادحاً فيه (إنك أيها الرجل تعيش على الأخطاء وسوف تموت من جرائها).

وفي مأواه غرق في مقعده وراح يشحذ ذهنه ويكد قريحته لعل يصل إلى حل لتلك المعضلة الجديدة أو عساه يجد طريقا للخلاص مما وقع فيه من الخطأ مرة أخرى.

وهبط الليل وانتشرت معالمه الطاغية على الكون. بل مضى كل الليلة إلا قليلا واقترب الفجر وكاد يبزغ. وورلاند لما يجد بعد حلا لذلك الإشكال الجديد، وظل جالساً بأعين جاحظة وجفون مقرحة، وشعر مشعث وخدين أصفرين غائرين.

ستصل الرسالة إلى الكولونيل بعد بعض ساعات فيقرأها ويدرك كل شيء.

ليس هناك سبيلا لمنع ذلك، على الرغم من أن الخطاب لا يزال في مكتب البريد. يا لله! كيف يمنع وصوله؟ لقد أصبح ذلك مستحيلا، لأن الكولونيل يتسلم رسائله يدً بيد من موزع البريد. وزأر فورلاند يقول:

- لماذا لم أتريث قليلا؟

واختفى فورلاند المرح الطروب، واحتل مكانه فورلاند آخر وحشى النظرات. كساه اليأس ثوب الجنون، وأورثه الهم والقلق حالة التوحش.

ها هو ذا الخراب يتراءى له كوحش هائل يريد ابتلاعه، والدمار يهاجمه كجارح جبار يبغي اختطافه، ومع ذلك كان في وسعه أن يتفادى ذلك لو أنه لم يخطئ ويرسل ذلك الخطاب. وملأ كأسه من الكونياك ورفعها إلى فمه بيد ترتعد في شدة وعنف، حتى لقد تساقطت قطرات من الشراب على أرض الغرفة.

وانتبه أخيراً من ذهوله فرأى أن الصبح قد تنفس وبزغ النهار وأضاء. فأخذ يضحك بينا

<<  <  ج:
ص:  >  >>