أما الجاحظ فقد يكون أهم شخصية من شخصيات القرن الثالث، وذلك لأن عمله مزدوج، وقد برز تبريرا ظاهرا سواء في البلاغة أو في النقد. ففي البيان والتبيين يتحدث عن المعاني وتصورها واختلافها في النفوس، وأنها ما لم يعبر عنها موجودة في قوة المعدومة، وإنما تحيا بالتعبير عنها. وكيفية التعبير عن المعاني تجذبه إلى التحدث عن الألفاظ، وإلى المقارنة بينها وبين المعاني، وهذه البحوث من صميم البلاغة. لكنه مع ذلك يلاحظ ملاحظات ويبدى آراء على جانب عظيم من الأهمية في الإنتاج الأدبي ونقده - منها:
(١) البعد عن الهوى والمحاباة. أي يدعو إلى أن يكون النقد موضوعيا معللا قائما على أسس تبعده عن التحيز والتعصب.
(٢) الطبع والاستعداد. فهو يدعو من يأنس في نفسه ميلا إلى الأدب أن ينمي هذا الميل ويلتمس له النماذج الرفيعة غير متهيب من إساءة، ولا متخوف من نقد.
(٣) رسالة الأدب ويرى أنها خلقية.
(٤) عدم إذاعة الآثار الأدبية قبل التأكد من جودتها.
وسنرى بعد أن هذا العمل المزدوج الذي اضطلع به الجاحظ كان شيئاً طبيعياً اقتضته روح العصر وتلك الحركة العلمية التي كانت في عنفوان نشاطها لكنها كذلك كانت في مراحلها الأولى.
إلى الآن والنقد الأدبي إما عربي صرف؛ أو عربي فيه لمحات خافتة من ثقافة اليونان لكنه عربي القواعد والتطبيق على كل حال. لكن مع هذا النقد أو بعده بقليل (في الربع الأخير من القرن الثالث والثلث الأول من القرن الرابع ٢٧٥ - ٣٣٧) ألف قدامة بن جعفر كتابين: أحدهما في نقد الشعر والآخر في نقد النثر على اختلاق في نسبة الثاني إليه.
ذكر في نقد الشعر أنه لم يجد أحداً وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا مع أن الناس يخبطون فيه وقلما يصيبون. وكأنما ساءه هذا الإهمال وعز عليه أن يضل الناس في نقد الشعر. فوضع في ذلك كتابه، وقد عالج الموضوع على طريقة ظاهرة التأثر بتفكير أرسطو. وأظهر أثر لكتاب الخطابة عند قدامة هو الكلام في الفضائل النفسية التي جعلها أرسطو أمهات الفضائل. فقد نقلها قدامة إلى الشعر وربط معانيه بها وأدعم بينه وبينها