جسمي خرافة الصنم، فهو مقبل على جميلة، ولكنه منصرف عني امرأة. لم أيأس على كل ذلك يا أمير المؤمنين، فإن أول الحب يطلب أخره أبدا إلى أن يموت. وكان يكثر من زيارتي، بل كانت إلى الغدوة والروحة، من حبه إياي وتعلقه بي، فواعدته يوما أن يجيء مني وأرى الليل أهله لأغنيه (ألا قل لهذا القلب. .) وكنت لحنته ولم يسمعه بعد. ولبثت نهاري كله أستروح في الهواء رائحة هذا الرجل مما أتلهف عليه، وأتمثل ظلام الليل كالطريق الممتد إلى شيء مخبوء أعلل النفس به. وبلغت ما أقدر عليه في زينة نفسي وإصلاح شأني، وتشكلت في صنوف من الزهر، وقلت لأجملهن وهي الوردة التي وضعتها بين نهدي: يا أختي، اجذبي عينه إليك، حتى إذا وقف نظره عليك فأنزلي به قليلا أو أصعدي به قليلا. قال يزيد وهو كالمحموم: ثم ثم ثم؟
قلت يا أمير المؤمنين: ثم جاء مع الليل، وإن المجلس لخال ما فيه غيري وغيره، بما أكابد منه وما يعاني مني. فغنيته أحر غناه وأشجاه، وكان العاشق فيه ليطرب لصوتي، ثم يطرب الزاهد فيه من أنه استطاع أن يطرب، كما يطيش الطفل ساعة ينطلق من حبس المؤدب. وما كان يسوؤني إلا أن تمارس في الزهد ممارسة، كأنما أنا صعوبة إنسانية فهو يريد أن يغلبها، وهو يجرب قوى نفسه وطبيعته عليها، أو كأنه يراني خيال امرأة في مرآة، لا امرأة مائلة له بهواها وشبابها وحسنها وفتنتها، أو أنا عنده كالحورية من حور الجنة في خيال من هي ثوابه، تكون معه، وإن بينها وبينه من البعد ما بين الدنيا والآخرة، فأجمعت أن أحطم المرآة ليراني أنا نفسي لا خيال، واستنجدت كل فتنتي أن تجعله يفر إلي كلما حاول أن يفر مني.
فلما ظننتني ملأت عينيه وأذنيه ونفسه، وانصبت إليه من كل جوارحه، وهجت التيار الذي في دمه ورفعته رفعا - قلت له: أنت يا خليلي شيء لا يعرف، أنت شيء متلفف بإنسان، ومن التي تعشق ثوبا ليس فيه لابسه؟
ورأيته والله يطوف عند ذلك بفكره، كما أطوف أنا بفكري حول المعنى الذي أردته. فملت إليه وقلت: أنا والله أحبك!)