كان ذلك منذ ربع قرن حين كانت الجامعة وكان الجامعيون يعيشون بين جدران الجامعة ويدرسون الأدب للجامعة ولأنفسهم قبل أن يدرسوه لخدمة المجتمع وأهله أو قبل أن يتحملوا عبء هذه الرسالة ويكلفوا أنفسهم مشقة عرضها على المجتمع في صورتها الجديدة , وهي الصورة التي كانت تساير الزمن ونساير الحياة الجديدة الناهضة في العالم كله.
أعنى: كانت هناك حلقة مفقودة بين (الأدب الرفيع) في الجامعة و (الأدب الشعبي) في المجتمع. واستمرت هذه الفجوة السحيقة والهوة الضخمة بين الأدبيين ردحا من الزمن أعني خلالها الأدب المصري لونا من التفكك وضربا من الجمود الذي ذكرناه.
ويوم تفقد الحلقة بين الأدب الرفيع وأدب الشعب تقع الطامة الكبرى على المجتمع وعلى القومية وعلى الدين وتصبح الحياة ضرباً من الترهات والتفكك والحواجز السخيفة التي لا تحتمل، وتصير الأمة أشبه بأمتين متباينتين متنافرتين في أمة واحدة.
وقد كان من رحمة الله على مصر أن هذه الفترة لم تطل حين قيض لها بالأمس جماعة من الأدباء حملوا لواء الحياة الأدبية. ونقد هؤلاء صفوف الأدب وأخذوا يقربون بين الأدب الرفيع وأدب الشعب ويرسمون من المثالين مثالا واحدا صادقا يصور التطور الصحيح ويتجانس مع الزمان والمكان.
وقد كان الأستاذ الزيات في مقدمة هؤلاء النفر الذين قربوا الخطى ووحدوا الصوف ووسعوا الميدان الأدبي وأفسحوا المجال الصحفي للمطبوعين المقبورين والموهوبين المنسيبين. كما كان في رسالته عون الشباب المتوثب المكافح المناضل العامل على رفع القواعد من المدرسة الأدبية المصرية. وهو من هؤلاء النفر الذين يقدرون الشيء لذاته. فليس أكرم الأدباء في نظره أشهر ولا أسنهم ولا أغناهم ولا أعظمهم جاها وشأنا، وليس أتفههم عنده أخملهم ولا أصغرهم ولا أفقرهم ولا أحقرهم مكانة ورتبة. إنما أكرمهم عنده بأدبهم وأعلمهم. وهكذا لم يشأ الأستاذ الزيات أن يتخذ من المقاييس اللاإرادية مقياسا يقيس به الأدباء والعلماء لقد أبى الأستاذ في رسالته إلا أن يكون الناقد الحصيف الذي يحسن الاختبار ويصل إلى الأعماق في النقد، ذلك لأنه يأبى إلا أن يجعل من الإرادة والإرادة وحدها مقياسه النزيه. أما هذه المقاييس التي تقوم على صفات عريضة لاحظ للإنسان فيها