في الحفرة، وقد علاه الرغام، فورم أنفه غصبا، وثارت حفيظته، ورفع الصنم من الحفرة وغسله وطيبه ثم قال، وهو يربت على الصنم -: وحقك لو كنت أعلم من صنع بك هذا لأخزيته، ثم نظر إليه نظرة صارمة، فيها بشائر من نور الهداية، لأنها أول الشك في هذه العبادة، ولأن فيها صرخة خافتة ضعيفة من العقل الذي خنقته الأكاذيب، وألجمه التقليد، ثم هب إلى سيفه وعلقه على الصنم وخاطبه قائلا: إن كان فيك خير فامتنع!
وجاء الفتيان في الليل - يجرون كلبا وربطوه في عنق الصنم، وأخذوا السيف وانطلقوا، وكأنهم أرادوا بربط هذا الكلب في عنق الصنم، أن يوقظوا بهذا الدرس الساخر عقلا وثنيا، استعبده الخشب والحجر، وكان درسا ناجحا مؤثرا، فحين أصبح عمرو سار إلى صنمه فألفاه ملقيا إلى جانب الكلب في الحفرة، فهان في عينيه، وصغر في نفسه وقال:
تا لله لو كنت إلهاً لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
ثم قام إلى الصنم وحطمه، ودعا زوجه (هند) وأمرها بأن توقده، وتطبخ عليه ثم قال لها: اذهبي إلى أخيك عبد الله وابن جابر وقولي لهما: باني قد أولمت اليوم وليمة فإذا كان الليل فليغد إلى بيتي كل مسلم في يثرب، من بني سلمة
قالت (هند) وقد عمها البشر، وأستخفها الطرب.
حمدا لك يا إلهي! فلقد أسبغت علينا النعم، وصرفت عنا النقم، وبدلت شقائنا سعدا، وظلامنا نورا، وايم الله يا عمرو ما رأيت كاليوم أنسا وسرورا، لقد أحببتك حبا ملك على نفسي مذ كنت تغدو إلى بيت أخي عبد الله، وكان الحديث عنك يهز أوتار قلبي، ثم لما صرت إليك، كنت أزهو على أترابي بك، لأنك سيد قومك، وأكرم عشيرتك، ولكن هذا كله أمام إيمانك اليوم، قطرة من بحر، وحصاة بين در، فما أنت - الآن - بشر، بل أنت ملك كريم.
- ٣ -
وكرت الأيام، وتتابعت على المسلمين أحداث، وظفروا بأعدائهم في بدر، وأعملوا في رقابهم السيوف، وسقوهم كؤوس الموت الزؤام، حتى كان (عمرو بن الحموح) يوما في مصلاه مقبلا على ربه يقرأ القرآن، مطمئن النفس، هانئ القلب، فإذا بصديقه (عبد الله) يدخل عليه فرحا مستبشراً، فتلقاه بالتحية والترحيب ثم قال له: