للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مكانه، وكان مكروها من العرابيين، وبث محافظ العاصمة الجديد العيون والجواسيس لينقلوا أخبارهم، ويتعرفوا على جركاتهم وسكناتهم.

ما أشبه الليلة بالبارحة، وإن التاريخ يعيد نفسه. ولكن الذين يعتبرون به هم القليلون. وهذا الذي ذكرته من قبل كان من أسباب ثورة أحمد عرابي. وهو ذاته من أسباب ثورة محمد نجيب. الاستبداد بالأمر! تقييد الأذناب والمفسدين! فضائح الاستغلال والارتشاء! الغطرسة والتنكر لحقوق الشعب! كل هذا دروس بالغة كان يجب أن تؤتي ثمارها، غير أن الناس غافلون عما تقدمه لهم يد الزمان من ألوان العظة والاعتبار. ولو اعتبروا، ولو اتعظوا، لما وقع المتأخرون في مثل ما وقع فيه المتقدمون من عوامل الإفساد والأثرة، فانقلبت عليهم شعوبهم طالبة العدل والإنصاف!

أنا لم أر الأستاذ الرافعي، ولكن كتابه ينم عنه، فهو كتاب دقيق واضح عادل. ومعنى هذا أن مؤلف الكتاب يتمتع بصفات نادرة هذه الأيام من العدل والنظافة والإخلاص. وهي ذات الصفات التي قد تكون وفقت في سبيله، وغبنته حقه، فتقدم عليه من هو دونه. وإنه لأثر قبيح من آثار هذا الزمان الذي كنا نعيش فيه - والذي أرجو أن ينقشع - أن تكون الصفات النبيلة والكفايات الخلقية النادرة من أسباب تعويق الإنسان عن أن يصل إلى ما يستحق من تقديم وتكريم.

وأظن أنه كان من الخير أن حرم كتابه (الزعيم أحمد عرابي) النور إثر انتهائه من كتابته ولم يظهر في وقته المحدد. ذلك أن الظرف الذي ظهر فيه فيما بعد هو انسب الظروف لاستقباله مثل هذا الكتاب. فالكتاب عن جهاد زعيم ثائر - والثورة كانت للظفر بحق الشعب. ونحن الآن، وبقراءته، يجب أن نقارن بين الثورتين في دوافعهما وأسبابهما، وفي أغراضهما، وفي طبيعتهما. ويجب أن نعرف الدواعي التي أدت إلى إخفاق الثورة الأولى، لنتحاشاها ونحصن أنفسنا وثورتنا ضدها، ولئلا نقع فيما وقع فيه العرابيون.

يذكر الأستاذ الرافعي بحق أن الثورة العرابية مرحلتين: المرحلة الأولى كانت الثورة فيها مسددة موفقة، والمرحلة الثانية حادت الثورة فيها عن الطريق الإصلاح المنشود. والفارق بين المرحلتين هو عمل العرابيين على تنحية محمد شريف باشا كان بلا نزاع أقدر من البارودي على حسني تدبير الأمور في تلك الأوقات العصيبة، إذ له من ماضيه السياسي،

<<  <  ج:
ص:  >  >>