وثقافته، واختباره، ما يجعل له كفاية ممتازة في الاضطلاع بالمهام السياسية. أما البارودي فقد كانت نشأته أدبية حربية فحسب، وهذه مزايا ليست هي المطلوبة لتصريف سياسة مصر، وخاصة في هذا الظرف المضطرب. زد على ذلك أن رجال الجرب والشعر لا يعالجون المشكل علاجا واقعيا، بل يعالجونه بالحمية القلبية والخيال الذهني، لا بعقلية الحكيم المتبصر.
وهذا درس يجب أن يصغي إليه القائمون بأمرنا الآن عنايتهم، ويرعوه حق الرعاية. فإننا الآن عرضه - قدر الله - لمقل هذه المزالق التي تعثر فيها الآراء. ولو استمعنا إلى الماضي، وأحسنا التلقي عنه، لجنبنا ذلك كثيرا من الصعوبات السياسية الكثيرة، تلك الصعوبات التي ينقب عنها كل لحظة أعداء الحركة في الداخل والخارج.
وقد كان لكل من إنجلترا، وفرنسا، وتركيا، موقف مشهود في الحركة العربية، أما فرنسا وإنجلترا فكانتا تتدخلان في شؤون مصر الداخلية، وتعملان على إحباط الحياة النيابية، وتوسيع شقة الخلاف بين الثائرين والخديوي. وكان لهما ما أرادتا. ثم انسحبت فرنسا من الميدان وخلت إنجلترا وحدها فيه تتصرف بمحض جشعها واستغلالها ومصالحها الخاصة، ولا لمصالح العرابيين، ولا لمصالح الخديوي الذي تدعي أنها تحميه وتعمل على استقرار عرشه. وأما السياسة التركية فكانت تتسم بقصر النظر، والغرور الأحمق، والعمل على تسوئ سمعة مصر، وإعلان سيطرتها الوهمية على البلاد. وهذا شبيه بموقفها الذي الآن من الدول العربية عامة ومصر خاصة، فهو موقف الحقود الذي يتربص بنا الدوائر، فلا تنصر قضية عربية، وموقفها من مرور ناقلات البترول بقناة السويس لحساب اليهود معروف، وكذا موقفها من قضية تونس الذبيحة معروف أيضا.
والأستاذ الرافعي كتب كتابه بأسلوب المجتهد، إذ المعروف أن مصادر التاريخ المصري ملوثة، وان الكاتب يجد حرجا كبيرا، خاصة إذا كان من الوطنيين المخلصين أمثال الأستاذ الرافعي، فهو يكتب للوطن، لا لحساب دولة معينة ولا ناحية ما، بل إرضاء للحقيقة والواقع وتسجيلا لفترة من ماضي هذا الوطن المنكوب، حتى يفيد من يرجو الخير لبلاده، وحتى يشيح بوجهه من يشاء.
وهو مستقل في أحكامه على أحداث الثورة العرابية ووقائعها. وهو لا يعفي العرابيين من