وكفكفت المرأة عبرات الخيبة في صمت، ثم انطلقت إلى ابنتها حزينة كئيبة تحدثها الحديث كله، وتقف في طريقها إلى أبيها الثائر خشية أن يقع في أمر. وساد صمت رهيب حين علم الجميع أن أعصاب الأب تضطرب، فأمسك فرنسكو عن العزف على البيان، وتركت لوشيانا لعبتها، وصمت بيبينو الصغير عن استذكار دروسه، حتى الخادم المسكينة، خفقت من وطئها وهي تعد المائدة لئلا تزعج سيدها. . .
وعلى المائدة جلس الجميع في سكون، وبدت إيلينا قلقة جزعة وقد سيطر عليها اليأس، واضطربت الشوكة في يدها فسقطت، في سذاجة الطفل التقطها بيبينو وهو يبسم، ثم انفجر ضاحكا، وضحكت لوشيانا، ثم فرنسكو، حتى الأم الحزينة افتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة. وغاظ الزوج ما رأى، فأراد أن يخمد هذه الزوبعة في خشونة وغلظة، فنظر إلى زوجته ومن عينيه يتطاير شواظ ينتقد وقال:(أعدي ملابسي، سأسافر غدا إلى قريتنا. . قريتنا فالكونيتو)، وذعرت الزوجة وتردد نظرها حائرا بين الزوج المحنق وبين الفتاة وهي تتلقى الصفعة القوية. وأدرك الجميع ما أراد الأدب، فأطرقوا في حزن إلا بيبينو الصغير، فقد لمعت عيناه بالفرح. . . فرح التلميذ الصغير ينتظر الإجازة. . . فأشار إليه الأب:(أمسرور أنت لأنني ذاهب؟) فارتعد الطفل وقال (لا. لا يا أبي، حقا لا!)
وانطلق الأب والزوجة تقول له في صوت ضعيف:(أتعود قريباً؟ لابد أن تفكر في هذا الأمر) فقال: (أي أمر؟) قالت: (زواج إيلينا! إ ذهابك معناه الرفض والتحدي معاً. إن سعادة ابنتك فوق كل عمل في فالكونيتو) ولكنه كان في ثورته يبدو عنيدا فقال: (لا جرم أن المرأة حين تفكر في الحب تراه فوق كل عمل وإن كان عظيما!)
لم يكن العمل هو الذي دفع الزوج إلى القرية ولم تكن الرغبة، وإنما كانت النفس الشريرة التي فيه هي التي أرادته على أن يسئ إلى أهله
وصاحت الزوجة:(بيترو، لا تذهب. . .) غير أن الرجل اندفع لا يلوى على شيء. حتى إذا كان لدى الباب التفت إلى ورائه فرأى. . . رأى أبناءه في إطراق حزين، وصمت مؤلم، وما هم أحد ليودعه، فقال له ضميره:(أرأيت. . . أرأيت أسرتك المحبوبة كيف تتركهم عبيداً أذلاء؟)