جلس بيترو وحيداً إزاء المدفأة في بيت قديم له بالقرية، وخياله عند الجماعة الذين خلفهم هناك في المدينة؛ وبدت نفسه رفيقاً له يحدثه:(كأني أسمع الزوجة تقول لابنتها: أمغتبطة أنت يا إيلينا؟ فتنطوي الابنة على هم، ونفسها تضطرم أسى ولوعة. وكأني بالأولاد من حولها يمرحون ويقولون: ما أجمل المكان حين يرتفع عنه هو. . . هذا الكابوس هذا الكابوس هو أنت. . . أنت الذي لا يحبك أحد، ولا يسر لمرآك طفل. . . أنت الشبح المخيف. . . إنهم يكرهونك ويمقتونك. . . عجيب هذا؟ كيف مرت الأيام وأنت تورث الفكرة في أذهانهم عن جهل منك وغفلة؟
لقد كان وحيداً، ولكنه كان هادئاً يستطيع أن يشعر نفسه الأخطاء التي ارتكبها؛ ويستطيع أن يرى بعيني عقله ثمار القسوة والغلظة وهي مرة كريهة. واستيقظ ضميره مرة أخرى يؤنبه بكلمات لاذعة قاسية، وحكم هو على نفسه حين نشر على عينيه تاريخ أعوام مضت. لقد كان إلى عهد قريب هادئ الطبع حلو الشمائل، رقيق العاطفة، طيب القلب؛ وحين أحس مصباح الحياة ينطفئ أمام عينيه لمس هو الظلام في كل شيء، وراحت أعصابه تضطرب فما يقوى على ضبطها. ماذا جنت زوجته وهي رقيقة عذبة الحديث عطوفة رحيمة طيعة؟ وماذا جنى هؤلاء الأطفال الأبرياء ليرى هو الهفوة الهينة منهم كبيرة لا يكفر عنها إلا العقاب الشديد؟ ثم ماذا في هذه الأعصاب الفانية المضطربة؟ لقد كانت رسول الشؤم والظلام في هذه الدار وأهلها آمنون).
هذه هي النهاية. . .!
وطلعت أيام الشباب في خياله تذكره قصة الماضي. فرأى أسرته جميعاً تنهد فرقا من ذكر أعصاب الأب المضطربة، تلك الأعصاب الظالمة التي وقفت سدا منيعا في سبيل زواج كبرى بناته، والتي أرغمت الصغرى على أن تتخذ خماراً وقد سيطر عليه الشك؛ ثم هي أخرجت أكثر أبنائه من الدار لا يملك صلدياً يسد به الرمق، وبيترو. . بيترو نفسه قاسي ويلات ما منته به هذه الأعصاب الظالمة. لقد كانوا يكرهون الأب ويمقتونه، لما يرون فيه من الظلم والأنانية، وكان بيترو نفسه يقول:(آه، لو أن لي ولدا فقسوت عليه بمثل هذا لخنقت نفسي بيدي هاتين. .) أما الآن. . . أما الآن فقد تراءى له ما يضطرب في خواطر أبنائه هو جميعا، وأحس بما يضمرون له من المقت والكراهية.