الرجل جميلاً، فأنطلق إليه يخبئه في ثنايا معطفه، ثم اندفع إلى الشارع في هدأة الليل وسكونه. ولقد غادر الفندق لم يشعر به أحد، ثم أسرع وتراءى له هو يسير على شاطئ البحر كأن كواكب السماء تتساقط رويدا رويدا لتغتمر في هذه اللجة، فقال:(يا عجباً! أكل شيء في الطبيعة والإنسان يريد أن ينهد؟) وظل يحدث نفسه هذا الحديث وهو يخب في الظلام بين الصخور المظلمة والبحر الداكن
ومضت نصف ساعة جلس بعدها ليلبس الحذاء المسروق، لقد بدا عليه السرور والفرح - بادئ الأمر - غير أنه ما لبث أن استشعر الحسرة تفجره وتكاد تعصف به، فراح يحدث نفسه (ماذا يكون لو أنهم تبعوني؟ سيقتلونني لاشك، ماذا تقول زوجتي إذن؟ ستقول: ماذا صنعت يا إيليا؟ أف تسرق حذاء؟ أي فرق بينك وبين من يسرق مليون ليرة، أيها السارق؟
واضطربت الفكرة في رأسه: (مليون ليرة! أين هي؟ أين أجدها لو وجدتها لا ختطفتها لا أني ولا أتباطأ!) ثم تمطى وهو يبسم لهذه الخاطرة، ومد رجليه وحرك أصابعه في الحذاء الجديد؛ يا عجبا! لقد رانت على نفسه سحابة سوداء من الكآبة مرة أخرى، وشعر بقدميه تتقدان، وبأصابعه تختلج كأنها تنفر من هذا الحذاء المسروق! لقد سار في طريقه متكاسلاً، ومتأبطاً حذاءه ليستطيع أن يلبسه إذا تبعه أحد؛ ثم اضطرب وتوزعته الأفكار السود؛ فهو يلتفت إلى وراء بين الفينة والفينة ليرى من عساه يتبعه
وانبثق الفجر كأنه شيطان مارد يحدجه بعينيه فيهما البغض والازدراء؛ يطل عليه وقد قنعته سحابة دكناء من الضباب لبيعث في نفسه الفزع والرعب، ولينذر بالفضيحة والويل؛ وهؤلاء الناس - عما قريب - ينسلون إلى القرية مارين به، وحين يسمعون قصة الحذاء المسروق يقول قائلهم:(نعم، لقد رأينا رجلاً هناك يسير مضطرباً، وقد تأبط حزمة بخبئها تحت معطفه. . .)
ورأى - وهو يسير - فلاحاً يسير الهويني، في طريقه إلى القرية، فخيل إليه أنه يحدق به، ويلتفت إليه بين الحين والحين وعلى شفتيه ابتسامة السخرية والتهكم
ثم. . . ثم انحسر الظلام عن نهار حزين كالح؛ وقد نشرت السحب ذوائب طويلة سوداء تصل بين الجبل الشاهق والبحر المضطرب؛ والغرباتن تمر به وهي تنعق نعيقها المشؤوم؛ وقد انطوى الجمال الذي أحسه بالأمس في هذه الناحية؛ وبدت له الحياة عابسة تبعث في