هيكل الوجود الفاني، وليس لهذا الهيكل علاقة بالوجود الروحي إلا كما تكون علاقة الخضوع والتبعية، وهذا بحد ذاته لا يحتاج إلى ذكر مستفيض. زد على ذلك أن الناس المثقفين - نظراً لمزاجهم الطبيعي - ينفرون من الخضوع للعواطف الهائجة، ولا يظهرون ما يعالج في نفوسهم حتى إلى أقرب المقربين إليهم. وهذا ما يخفف من حرارة المراسلات ولكنه في الوقت نفسه يزيد من سعادتهم الخاصة، لأن من يحمل قلبه في ردته لا يأمن عليه من نقر الغربان كما يقول المثل السائر، وعلى الرغم من أننا لا نبحث اعترافات رو سو حقها في الإفصاح عن مكونات قلب الكاتب؛ إلا أننا لا نجد شيئاً من هذه لاعترافات الجريئة في هذه المراسلات موضوع البحث
وفي الوقت ذاته هناك بعض الآثار ذات الطابع المنزلي منتشرة هنا وهناك نتقبلها ونحن مسرورين ولا نؤاخذها بشيء غير ندرتها، ولكن هذه المراسلات تحتفظ بصورة ذات أهمية قصوى، إذا اعتبرناها حق اعتبارها، وهي التي تشغل بالنا أكثر من تلك القسمات المنزلية. فهي تظهر لنا عقليتين مبدعتين شاعريتين، تنميان ثقافتهما بصورة منظورة، وتتقدمان من درجة إلى أخرى في القوة والجلاء والاستعلاء، وهما لا يسيران في طريق واحدة بل في اتجاه واحد. ومن هذا التقدم يمكن لكل شخص - مهما بلغت درجة ثقافته - أن يستفيد فائدة نفسية كبرى من هذه الدروس الغنية بمحتواها الأدبي. والقيمة الكامنة في هذه الدروس تزداد كلما تقدمت المراسلات، مع اختلاف في التطور، وتظهر على الخصوص على سيماء شلر، الذي يختلف عن صاحبه بصغر سنه وتأثره به، وهذه السنوات الإحدى عشرة تعبر أهم فترة من حياة شلر الروحية. وفي الحقيقة إن هذه الفترة يمكن اعتبارها التأريخ التقدمي منذ عثوره على الطريق المستقيم الذي نهجه في مستقبل أيامه
ولا يعنينا الآن التطرق إلى صفات عذع الوسائل ولا إلى محاسنها سواء كان منها العرضية أو الجوهرية، على ما هي عليه من قيمة كبيرة. أما العلاقة المتقابلة الشريفة الصريحة التي تظهر بين المراسلين وأسلوبهما وأهمية كل ذلك وما يتصف به هذا العمل من وجهة النظر الفلسفية والبيوغرافية، فنأمل أن نوفيها حقها جميعا في مناسبة مقبلة. ومع ذلك فبعض التأملات المجردة والاستنتاجات الأخرى ستبرز من تلقاء نفسها، وستظهر في بحثنا هذا،