أما المجتمع ذاته فهو أيضاً، لو أعد من جانبه الوسائل اللازمة لتأييد هذه الجهود الأولية، وعبئت قواته النشيطة لدعمها بغير تراخ (كان تطرد الكذابين مثلا من حظيرته كما هي الحال في بلاد الأحرار) لاختفى الكذب بلا مراء من أوساطه، ولذهب أثر بدداً من نفوس ظهرانيه إلى غير رجعة.
ولكن المجتمع الذي ينتهج عير هذه الخطة، فيعتبر البراعة في الكذب عبقرية ونبوغا، وينظر إلى النجاح الذي عماده التدليس نظره الإعجاب والإكبار، ويحترم الرجال الذين تحقق لديه كذبهم ونفاقهم، أجب! إن مجتمعاً كهذا ليضطر اضطراراً إلى الإذعان لكل ما يورثه إياه داء الكذب من الذل والهوان، ويجلبه له من الكوارث والنكبات.
ففي مجتمع كهذا لا يثق إنسان ولا يعول البعض على الآخر كما لا يبغي أي مجال للمشاركة في أي عمل يقوم على أساس سليم، أو تنفيذ أية خطة بطريقة اشتراكية ناجحة. . وهكذا ينعدم الأمل في ضمان أي نوع من الرقي والازدهار، فيتردى المجتمع شيئا فشيئا، ويأخذ طريقه إلى الهاوية والاضمحلال.
- آه أيها الأستاذ! إنني كنت أيضاً أشاهد هذه الحالات منذ مدة بعيدة. . ولكني لهم افهم عللها ودواعيها إلا في هذه اللحظة. . والآن هل لكم أن تتفضلوا بشرح حكمة المادة الثالثة؟
- حبا وكرامة!
- تقضي هذه المادة بفرض عقوبة قاسية كالرجم بالأحجار على مرتكبي جريمة الرياء والتملق. . وفي الحق أنني لم أفهم الباعث على استعمال مثل هذه القسوة الشديدة وهذا العنف الزائد، ألا يسوغ امتداح ذوي المراكز العالية، والقابضين على صولجان الحكم، والإشادة بمآثرهم؟
أليس لكل هذه القصائد الرنانة التي تملأ رحاب الأدب أي قيمة؟
ثم هناك مسألة أخرى، وهي أن جميع منابع السعادة، ومصادر النعيم موضوعة تحت تصرف، ذوي القوة والسلطان! بل وكثيراً ما يتوقف المصير وميزان الحظ على نظرة واحدة يرسلها أحد هؤلاء عفوا ومن دون قصد.
ألا يجوز في مثل هذه الحالة أن يتملقهم المرء ويأتي بما ترتاح إليه عنجهيتهم وعجرفتهم؟