فالأستاذ محمود رزق يقتدي بكتاب العصر المملوكي في حشد التراجم من كل صوب، وقد نسي أنه يكتب مجلداته في القرن الرابع عشر، لا في المائة الثامنة، أو القرن التاسع، ولكل عصر خصائصه في التأليف واتجاهه في البحث، فقد كان السخاوي وابن إياس والمقريوي يؤمون الجهات المختلفة، ليسجلوا تراجم من يقابلونهم أو يسمعون عنهم من علماء المساجد، وأساتذة المدارس، ومشايخ الزوايا، وقضاة المحاكم، ثم يسودون صحائفهم العديدة بما يجمع الطيب والخبيث، والصالح والطالح، والسمين والغث، والتافه والجليل، وقد عفى الزمن على هذه الطريقة البالية، وأصبحنا نختار ما نكتب عن دقة وتمحيص، فإذا أراد مؤرخ معاصر أن يسجل هذه الحركة العلمية في وقتنا هذا، فليس عليه أن يتتبع التراجم في شتى المظان ثم يرصدها لقارئه في إيجاز واقتضاب، ولكن عليه أن يدرسها في مطالعته الخاصة، ثم يأخذ منها ظواهر معينة وأدلة ثابتة يقيم عليها بحثه التاريخي الكلي، ويجعل منها أسساً متينة لآرائه وقضاياه، وما ينتهي إليه من نتائج وأحكام.
وهل يستسيغ الأستاذ الفاضل - إذا أراد أن يكتب عن عصرنا الحديث مثلا - أن يترجم لجميع من يقع على مؤلفاتهم من أساتذة الكليات ومدرسي المعاهد والمدارس، ومع أنهم جميعا يتسمون بالعلم والفضل والإنتاج، أو أنه يختص أولي الأثر البارز في توجيه الحركة العلمية والأدبية بالنقد والتمحيص؟ أكبر الظن أنه يتجه الوجهة الثانية دون نزاع، ولا يقبل أن يقلد السخاوي والمقريزي والسبكي وأبن حجر فيما صنعوه منذ عدة قرون!! ولعل اهتمامه الكبير بأن يجعل كتابه موسوعة حافلة ذات كتب وأجزاء، قد فعه إلى هذا الرصد والاستقصاء، وهو بعد يعلم مناهج البحث التاريخي وما طرأ عليه في العصر الحديث من ضوابط وقيود، ولن يحتاج إلى من ينبهه إلى ذلك، وفي الأبواب العامة التي يفتتح بها المواضيع الرئيسية لكتابه، ما يدل على إحاطته الشاملة بالتيار الفكري الحديث. . .
وقد خص أستاذنا الفاضل طائفة من أعلام الفقهاء بتراجم تحليلية مسهبة تحتل مكانا فسيحا من المجلد الثالث، وقد صاغها في نسق علمي دقيق، فهو يذكر المعالم البارزة في حياة من يترجم له، ويعرض شيوخه وتلاميذه وآراءه الفكرية والمذهبية، ثم يعنى بتحليل مؤلفاته، وعرضها عرضا يكشف عن ذخائرها الدفينة، ومكانتها المستترة، وبذلك استطاع أن يحلل طائفة من الكتب العلمية التي تعتبر بحق مصادر مستوفاة في الفقه واللغة والأدب والتاريخ،