الإمام الشيخ محمد عبده قصائد تنم عن إخلاص قوي، وتقدير عظيم، ثم سعى إليه فأسبغ عليه عطفه، واكتسب منه أدبا وعلما وخلقا، وقد أرشده الأستاذ إلى بعض الذخائر الثمينة من أمهات الكتب العربية فقرأها قراءة الدارس المتعمق، وزاد تعلقه بالشعر، فخاض بحوره ولهج بقوافيه، وزاد إنتاجه التقليدي قوة وصفاء حتى قارب البارودي في فحولة المطلع، ومتانة الأسر، وانسجام اللفظ، ووحدة الاتجاه، وإليك أحد مطالعه الرصينة في مديح الأستاذ الإمام:
سقاها وحياها ملث من القطر ... وإن أصبحت قفراء في منزل قفر
طواها البلى طي الشحيح رداءه ... وليس لما يطوي الجديدان من نشر
مسارح آساد ومثوى أراقم ... تجاور في قيعانها الغيد بالحجر
لقد فعلت أيدي السوافي بنؤيها ... وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر
وقفت بها في وحشة الليل وقفة ... أثار شجاها كامن الوجد في صدري
فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى ... إلى أن وجدت الصخر يبكي على الصخر
وكان الاحتلال الإنجليزي - إذ ذاك - حديث عهد بالبلاد، والمصريون في حسرة بالغة لما أصاب الثورة العرابية من فشل جره إليها الرشوة والخيانة وفساد الضمائر عند بعض الناس، والمنفلوطي كما نعلم سريع التأثر، رقيق الإحساس، قوي الشعور، فكان يفكر كثيرا في مصائب وطنه ورزاياه، ثم نظم قصيدة ثورية نشرها في كتاب خاص يندد فيها بالاحتلال وصنائعه من المصريين، كما عرض بالخديوي وحاشيته، ولم يذكر في نهايتها توقيعه الصريح، بل جعل الإمضاء رمزا غامضا لا يدل على إنسان!! وقد شاعت قصيدته فتناقلها الناس، وكان لها دوي بعيد، وبحث الطغاة عن القائل فلم يجدوه.
وواضح أن جمهرة المثقفين في مصر كانوا - ولا يزالون -
يبغضون الأسرة الحاكمة بغضا لا مزيد عليه، فهم يعلمون ما
جرع إسماعيل على البلاد من خراب هائل، نتيجة لديونه
الفاحشة التي استنفدها في ملذاته وشهواته، وبناء قصوره