أحسن استغلال، ويخلق منها مصدر خير وبركة للجميع بغير استثناء. . ذلك لأن العظماء لا يظهرون كل يوم أو في أي زمان، فقد يصادف أن الأمة الواحدة تحبل طوال عصور مديدة ثم لا تلد إلا واحدا من هؤلاء، وقد يتفق أيضاً أن عملية الولادة هذه تصبح قاسية ومخيفة جدا.
لهذا فالمجتمع الذي يعرف قدر نفسه يحرص على أمثال هؤلاء الأبناء كالحرص على بؤبؤ العين، ويبذل كل ما في وسعه لكي يفيد من حياتهم أعظم ما يمكن من الفوائد. .
وهذا هو السبب أيضاً في أن المداهنة والتلمق يعاقب المرء عليهما في بلاد الأحرار بعقوبة شديدة كالرجم بالأحجار، وذلك لكونهما من أفتك وسائل الإفساد والتخريب
- فهمت أيها لأستاذ! وقد أنار إيضاحكم هذا جوانب كثيرة من الماضي المؤلم القاتم أمام ناظري، فهل تتفضلون الآن بشرح المادة الرابعة من الدستور؟
- بكل ارتياح! تنص هذه المادة على أن الذين يشتغلون بالجاسوسية لا يستأهلون أن يكونوا من مواطني بلاد الأحرار، ذلك لأن الحرية والجاسوسية لا يمكنهما أن يجتمعا على صعيد واحد أو يأويا تحت سقف مشترك؛ فلا حرية حيث تسود الجاسوسية، ولا جاسوسية حيث تسود الحرية.
ولهذا ترى دوائر الاستخبارات وأوكار الدس والمؤامرات من أوقى الوسائل الفعالة التي يستند إليها الاستبداد في توطيد دعائم حكمه، وتثبيت أركان جبروته وطغيانه.
أما هدف الاستبداد الأوحد في هذا الخصوص، فهو أن تهون الروابط، وتفكك أواصر الثقة في نفوس أبناء الوطن الواحد، وتنفخ فيها روح الشك والارتياب، وليست ثمة وسيلة أقوى تمكنها من بلوغ هذا المأرب من الجاسوسية بلا مراء. .
ففي المكان الذي تنفق فيه سوق الدس والوقيعة لا نجد أحدا يثق يغيره؛ بل يجفل ويرتعد كل واحد من الآخر. . فيتلاشى بذلك الصدق، وتنتفي الصراحة بين المواطنين ليحل محلها الكذب والخداع والنميمة. . وهكذا يستحيل القيام بأي عمل اجتماعي تعاوني نافع، مهما كان نوعه أو كانت قيمته. .
والجماعات البشرية التي يصل بها الحظ العاثر إلى هذه المرحلة من الانهيار تكون أشبه شيء بقطعة مهلهلة من النسيج انحلت خيوطها، وتفككن أجزاؤها، فتفقد كل قابلية في نفسها