وفي اليوم التالي عند الظهر أعلن خادم القصر لسيده الدوق قدوم الممثل فلوريدور. فقال الدوق أدخله إلى البهو الكبير وهاأنذا آت إليه.
دخل فلوريدور البهو وجاء الدوق يصافحه؛ ثم ظهرت الغادة فقال الدوق:
أقدم إليك، يا ابنتي، الممثل فلوريدور الذي أعجبت بتمثيله وهو من كبار أهل الفن، ولذلك دعوته إلى مائدتنا ولعلك تسرين بذلك.
وطأطأ فلوريدور رأسه مفكرا بأية فظاظة يجب عليه أن يبتدئ بتمثيل دوره الذي عاهد الدوق على القيام له؛ ولكنه ما رفع بصره وشهد خالبة لبه حتى علا وجهه الاصفرار، وما مدت يدها لتصافحه وهي ترتجف من الشوق خيل إليه أنه يلصق شفتيه بشفتيها، ويغرق نور عينيه بأنوار عينيها. والتفت إلى ما حوله فارتعش أمام مظاهر الأبهة والبذخ في هذه القاعة تقف بينها فتاة حديقة الدير التي أقسمت له بالله ألا تحول عن حبه ولا ترضى بغيره رفيقا لحياتها، فرأى هاوية سحيقة تنفتح بين رجليه ولاحت له الحبيبة في معتصم من جبل لا قبل له ببلوغه، وتذكر وعده للأب الشيخ المتوسل الضعيف. فتمالك عواطفه وفيها ثورة وسعير.
وجلس فلوريدور إلى المائدة بين الدوق وحبيبته؛ فلما قدم الخدم أول لون من الطعام كان قد ملأ كأسه وأفرغها في جوفه دفعة واحدة، ثم ألحقها بكأس وكأس؛ ثم أخذ يمثل دوره متكلما بلهجة عوام الناس منتخبا ألفاظه السمجة، وما مرت نصف ساعة حتى كان فلوريدور يحملق بعينيه ويقسم ويلعن متدحرجاً تحت المائدة وقد سحب غطاءها معه فتدحرجت الأواني تتحطم بفرقعة أخفت الزفرات التي كانت تندفع من فم شهيد المروءة بالرغم عنه.
ونهضت ابنة الدوق بإشارة من أبيها وقد علا وجهها اصفرار الموت، فتقدم الدوق إلى الفتى قائلا: إن مروءتك تفوق إبداعك في التمثيل، لقد جبرت فؤادي الكسير، دعني أسد إليك الشكر الذي تستحق. ولكن ماذا أرى. . ما هذا الدموع المتدفقة من عينيك أيها السيد؟
ووجم الدوق إذ لم يجبه فلوريدور بكلمة؛ بل اندفع إلى خارج القاعة كأنه فقد رشده مرسلا ما كبته من زفرات وعويل.