وأعظم الحاضرون جميعاً هذا الخطاب العنيف، وخيم على مجلس الطاغية صمت ثقيل لم يقطعه إلا كليمات خافتة متعثرة من سليمان، تنصل بها مما أتهم به واعتذر مما قاله، ثم دعا للوزير وصمت.
وعاد سليمان بعد قليل إلى ظلمات محبسه وهو يحدث نفسه أن هذا غاية البغي، وان ما تحدى به هذا الطاغية القدر بعباراته المريرة، سيقع على وجه من الصحة يستخرج العبرة والعجب.
على أنه عاد بعد أيام فقبل ما قرر عليه، ورد عليه الواثق ضياعه وأقره على كتابة (إيتاخ).
ومرت سنين، أصبح بعدها وليد سليمان - الذي اختار له أبوه وهو رهن المحبس عبيد الله اسما، وبالقاسم كنية - أصبح فتى يافعاً، وشابا يتوسم فيه أهل الفراسة آيات النجابة وعلائم المجد، وطارت خلال ذلك لأبيه سليمان شهرة، وتأثل له مجد عريض.
ولما مات الخليفة الواثق تولى بعده أخوه المتوكل (بغير عهد منه) وكان يحمل أشد الضغينة لمحمد بن عبد الملك، ويحفظه عليه ما كان يجبهه به من المهانة زمن أخيه، ثم ما رامه يوم وفاة الواثق من تحويل الخلافة إلى أبن للمتوفى صغير. فلم يشف غليل نفس المتوكل إلا أن وثب على محمد بن عبد الملك وثبة سلبه فيها أسباب نعمته، ثم قتله بعد تنكيل وعاب (في صفر سنة ٢٣٣هـ).
وعهد المتوكل في مستهل نكبته لمحمد بن عبد الملك، إلى سليمان بن وهب بمناظرته وإحصاء متاعه. فوافى داره في كوكبة من الجند، وهو لاهج اللسان بشكر الله على ما أولاه من نعمة، وبلغه في عدوه من رغبة.
ولقى في الدار ذلكم الابن الصغير - أبا مروان عبد الملك بن محمد أبن عبد الملك - يبكي ويتظلم. فاستدناه إليه وسأله عن قصته فقال:
- منعت كل مالي، وأدخل ما أملك كله في الإحصاء.
فقال سليمان: لا بأس عليك. ثم أمر أن يرد إليه كل ما كان له. وخر ساجداً لله على أن هيأ له أداء ذلك الصنيع.
وقص سليمان بعد حين على ابنه عبيد الله حديثه مع الوزير محمد بن عبد الملك، في يوم