بالسلام، فلم يبق عند الأعراب إلا النبذ منه اليسير، وعند علمائنا إلا ما أدى إليه الشعر القديم، من غير أن يجدوا فيه أخباراً تؤثر، أو روايات تحفظ، والشعر يضيق بالأوزان والقوافي عما يتسع له الكلام المنثور. على أني لم أجد في أشعارهم شيئا في جلالته عندهم وعظيم نفعه، هو أقل منه، إنما يعرض في شعر المكثرين من ذكره البيتان والثلاثة، وأكثرهم يضرب عنه صفحا. وليس ذلك مذهبهم في وصف الإبل والخيل والحمير، والنعام والظباء والقطا، والفلوات والحشرات. ولم أجد فيهم أحداً ألهج بذكر القداح من ابن مقبل، ثم الطرماح بعده. ولو جمعت ما في شعر أحدهما من ذكره لم تجد ما فيه من وصف حمار أو بعير).
فمن هذا يتضح مقدار الجهد الذي بذله ابن قتيبة، وكشف به الدستور الذي كان يتبعه العرب في الجاهلية في لعب الميسر
على أن ابن قتيبة كتب هذا البحث بلغة معاصريه، وقارب منهجهم الذي لا يسوده النظام الكامل، ويشيع فيه الاستطراد والحشو.
وني لمحاول هنا أن أبسط البيان في هذا بلغة معاصرة، وبأسلوب أحسبه منظماً، راجعاً في ذلك إلى شتى المصادر التي تعين في هذا البحث الشاق الوعر، وبالله التوفيق.
لفظ الميسر ومدلوله
لا ريب أن عرب الجاهلية كانوا يطلقون لفظة الميسر غالباً على المقامرة بالأقداح لاقتسام الجزور بطريقة خاصة نذكرها فيما بعد، وهو ما يعبر عنه أبو حيان في تفسيره بأنه (قمار أهل الجاهلية).
فالميسر على هذا مصدر ميمي، كالمرجع من رجع، والموعد من وعد.
ويطلقون الميسر أيضا على الجزور نفسه، فهو اسم موضع من اليسر، بفتح الياء، واليسر: التجزئة، ولذلك سموا الجازر ياسرا لأنه ييسر اللحم ويجزئه.
قال غبن قتيبة:(هذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح المتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم أيضاً جازرون، إذ كانوا سببا لذلك، وكان الجزور إنما يقع بضربهم، والجازر يفصل اللحم لهم بأمرهم. وكل من يأمر بشيء ففعل فهو الفاعل له وإن لم يتوله بيده). فالإطلاق الأول إطلاق مجازي، والإطلاق الثاني هو الإطلاق الحقيقي.