عليه لأنه عليل الجسم مبذوء الهيئة، إكسوس الذي لا يخطو بالبيت خطوة إلا بابتسامة من مكريا تبدل بؤسه وتجدد أنسه، فإذا غابت عن الدار غاب عنه الأنس واستولت عليه الوحشة.
كان ينظر إلى الزهور الرمزية والدمع يجول في عينه، والهم يعتلج في صدره والألم الممض يرتسم على أسرار وجهه، فاستطير فؤاد أخته من الخوف عليه، لأنها تعودت أن تراه يشكو ويتألم منذ أثني عشر عاماً فلم تجده يوماً على مثل هذه الحالة من الكمد المقلق واللوعى الأليمة؛ فأقبلت عليه تعتذر إليه وتسري عنه، وتقول:
- أوه! أعفو عني وأغفر لي يا طفلي المسكين!
- أنا أعفو عنك وأغفر لك يا مكريا؟ علام إذن والسعادة التي غمرت بها قلبي وعمرت بها وجودي؟
- لا تشكري لي عنايتي بك؛ ذلك دين أقضيه. . . . . ذلك تكفير أؤديه. . . . . . .
فانبعث من عين الفتى المشدوه نظرات ضارعة تسأل أخته حل هذا اللغز، فقالت له: (سمعك إلي! منذ أربع سنين (كان عمرك يومئذ ثمان سنوات وعمري أربع عشرة جرت في أسرتنا حوادث عجيبة وأمور خارقة لم يصل علمها بأبي ولا بأخوتي لعلك تذكر ذلك الكوخ الذي بنوه على شاطئ البحر ليختفوا فيه عن أعين المضطهدين الكثيرين الأقوياء. كنت فيه ذات مساء وكان أبي وأخوتي في الصيد، وكنت أنت منهوك القوى ومن كثرة ما جريت في الغاب طول النهار فاستسلمت على هدهدة المطر والريح لنوم ثقيل وكان الليل قد أقبل منذ حين، وأبي وأخوتي لم يقبلوا بعد، فسمعت قارعهاً يقرع الباب فذهبت أفتحه وفي حسباني أني أجد الصيادين والصيد ولكني وجدت عابر سبيل يطلب الدفء والمأوى برهة من الزمن فأدخلته، ثم جلست إلى جانب سريرك واشتغل هو بتجفيف ثيابه على نار الموقد؛ وما كان اشد دهشتي حين رأيت نوراً لطيفاً يتلألأ على شعره الأشقر! عزوت ذلك النور بدياً إلى انعكاس النار التي في الموقد، لكن الموقد خبى وغرة المسافر ما تزال مشرقة! حينئذٍ أدركت أنه أبولون، الذي طرد من الأولمب فهام متنكراً في العالم على وجهه، ثم بقيت على رغم تنكره بقايا النور من هالته.
فجررت جاثية أمامه، وقلت ماذا تبتغي مني أيها الإله العظيم؟ فقال: (لا شيء غير المأوى!