وبمثل هذا المنطق نشر (كينز) هجومه على معدن الذهب كأساس للنقد الثابت الرصين، متهماً إياه بأنه (من مخلفات العهود الإقطاعية المتوحشة) ودهش الناس لآراء هذا العالم الشهير! وكانوا بين شاك في اتزانه العقلي وبين ومنتظر لميلاد فلسفة عملية جديدة للسياسة النقدية.
ثم سرعان ما نشر كينز في سنة ١٩٣٠ تفاصيل مشروعه لاستبدال معدن الذهب بشيء آخر يصون النقد ويثبته على أساس محترم مضمون، وشرح هذه الفكرة الجديدة في (بحث عن المال) في أهم الكتب في علم الاقتصاد الحديث.
وفي نهاية استعراض دقيق ممتع عن النقد والشؤون المالية - والحديث عن المال ممتع في جميع المناسبات - اقترح (كينز) إنشاء سلطة نقدية دولية تتحكم في تقدير أسعار الذهب بحيث لا يصبح هذا المعدن الأصفر متحكماً في رقاب النقد المحلي لكل دولة ولكل شعب، واقترح صاحبنا أن تقوم هذا السلطة الدولية التي تضم جميع الدول الراغبة في الانضمام بتنسيق أسعار العملة لكل دولة، وتحديد أسعار المواد الأولية وما إلى ذلك من اوجه الشؤون المالية التي يهم بها أهل الاختصاص.
وأشار كينز كذلك أن يكون من ابرز (أهداف سلطة النقد الدولية) بعد تنسيق أسعار النقد في كل دولة تشجيع استثمار الأموال الحكومية والخاصة في داخل البلد وفي البلدان الخارجية ضمن ترتيبات وإجراءات معينة تحددها سلطة النقد الدولية هذه بالتشاور مع الدول والهيئات المعنية بالأمر.
وأخذت بريطانيا بمشورة كينز فتخلت في سنة ١٩٣١ عن اعتبار القيمة التقليدية لمعدن الذهب أساساً للجنيه الإسترليني.
ثم أغرم رئيس الجمهورية الأمريكية فرانكلين روزفلت في ذلك الحين بآراء كينز واقتبس منها جزءاً كبيراً وطبعه على سياسة أمريكا المالية في داخل الولايات وفي خارجها.
وفي كلتا الحالتين - في بريطانيا وأمريكا - كانت مشورة كينز وآراءه عاملاً قوياً في الإفراج عن ضائقات البلدين في الشؤون المالية والاقتصادية أجمالاً.
وجدير بنا أن نستذكر بأن عقلية (كينز) كما وصفها كاتب سيرته وسجلناها في مستهل هذا الفصل - هذه العقلية كان همها معالجة حالة راهنة غير مقيدة بأحداث الأمس ولا مترقبة