وكانت تطرب إلى الصوت الذي يحدثه مجدافه في الماء، لكنها إلى جانب هذا الطرب كانت تشعر بشيء من الخوف وتسرع بالعودة إلى منزلها كأنما رؤية هذا الصياد الفرد تضيع عليها سرور الوحدة.
وكانت كثيراً ما تفكر في معيشته فتقول: إن صياداً وزوجته لا يكاد رزقهما المحدود يكفيهما؛ ولكن إذا كان بينهما ابن صغير فقطعة من الخبز عندهما ألذ مأدبة، والكوخ الضيق أرحب بها من ملكوت السماء. . . ثم تذكر حظها وتتنهد. وكانت في كل ليلة يتلو رؤية الصياد تصاب بالأرق وتشتد عليها وطأة الهم حتى تكاد تلقي بكل أثاث المنزل من النافذة في البحر لتكون حياتها بسيطة كحياة الصيادين. وكانت تشعر في هذا الحين كأن إنساناً ينتظرها أو أنها على موعد؛ فهي لذلك تترقب وهي لا تعرف مدى ترقبها، ولا من هو الطيف الذي تنعكس أحلامها عليه.
وكان شعورها جلياً صريحاً فهي تدرك كنهه وإن كانت تجهل سببه. وكانت تدرك أن ذلك الإنسان الذي يصوره لها الشعور مرتبط بها من عهد بعيد وأنها قضت كل هذا العمر في انتظاره.
وكانت في ساعات وحدتها تخاطبه بأعذب الجمل وارقها، وتخال أنها تسمع من فمه السحر الحلال. وأي ضرر في التمادي في حبه؟ أليس شخصاً خفيا يحبها سراً فما يشعر بحبه إنسان؟
وسواء قضت ليلها ناعسة الطرف، أو مؤرقة، فقد كانت تقوم في الصباح مبكرة، فتسقي أزاهير الحديقة، وتتعهد أحاديث النبت منها كأنه مولود جديد. وتهش إلى الفراش الطائر. ثم تجلس في الظلال بين الألوان الزاهية، والروائح العطرة. . .
وفي يوم من هذه الأيام، سمعت طلقة عيار ناري. ثم وقع تحت قدمها عصفور مصاب بهذه الطلقة. ففزعت ووقفت في مكانها، وقد امتعق لونها. . . وبعد لحظة جرى نحوها كلب من كلاب الصيد فاختطف العصفور وظهر على الأثر ذلك الصياد صاحب السفينة السوداء. فلما رآها رفع قبعته محيياً، وهم بأن ينطق بكلمات الاعتذار. . . ولكن ألفاظه اختنقت!. . . فنظرت إليه نظرة طويلة دون أن تتحرك. ومشى نحوها الشاب وقال: (إنني آسف يا سيدتي! لأني ما كنت احسب هذا المفنى معموراً وقد كنت اصطاد في الأدغال المجاورة