للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نفسك عالم عجيب، يتبدل كل لحطة ويتغير، ولا يستقر على حال: تحب المرء فتراه ملكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً، وما ملكاً كان قط ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرة فترى الدنيا ضاحكة، حتى أنك لو كنت مصورا لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر، باكية قد غرقت في سواد الحداد. وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.

فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق؛ وأي نظرتيك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع، ساءت عندك الحياة، وأمحى جمال الرياض، وطمس بهاء الشمس، اسود بياض القمر، وملأت الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً، وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً. فإذا زال ما بك بقدح من زيت الخروع، ذهب التشاؤم في الفلسفة، والبؤس في الشعر. فما فلسفتك يا أيها الإنسان وما شعرك إن كنت مصدرهما فقد قدح من زيت الخروع؟

وتكون وانياً، واهي الجسم، لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك الخطر، أو هبط عليك فرج. وثبت كأن قد نشطت من عقال، وعدوت عدو الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل - كيف استطع أن تفعلها؟

إن النفس يا أخي كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة منه في مكانها، ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب ويجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها، وتدفع هي التي أمامها. في كل لحظة يموت فيك واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات وأنت الذي ولد، فابتغ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واستولدها دائماً مولودا اصلح واحسن، ولا تقل لشيء لا أستطيعه فإنك لا تزال كالغصن الطري، لأن النفس لا تيبس أبداً، ولا تجمد على حال، ولو تباعدت النقلة، وتباينت الأحوال. . إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل المنام؛ فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر! وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها، فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها وتعجب كيف كنت تشربها. وتحب المرأة حتى ما ترى لك الحياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها. فلا تقل لحالة أنت فيها، لا أستطيع تركها، فإنك في

<<  <  ج:
ص:  >  >>