تنتظره فإنها ستبتلعني فيما بعد. وإني لأرى نظراتها القاسية العميقة تحذق بي في حدة كما لو كانت عيونها من الصخر الأصم).
والواقع أن هذه العيون القاسية التي تخيلها (ترجنييف) تحدث فيه في عمق وقساوة ليست إلا هذا الأفق البعيد الذي يهيمن على السهول الروسية الشاسعة التي لا نهاية لها - نهاية غامضة محاطة بالأسرار لم تقو الشخصية الروسية ممثلة في الفلاح ورجل الشارع أن تقهرها، ولذلك تولدت في هذه الشخصية خصائص اندفاعية قاسية تستميت في الصراع (العسكري والسياسي) لتفرج عن الشخصية الروسية هذه الأزمنة النفسية التي تنتابها بين حين وآخر من الحوادث والملمات. ومن هنا يفسر علماء النفس الاجتماعي تقبل العقلية الروسية للمبدأ الفوضوي (النهلستي) فهذه الكلمة من اشتقاق المفكر الروسي المعروف نيقولاي شرنيشيفسكي الذي وصف للشعب الروسي في كتابه (ما الذي يجب عمله (فردوسا)(فوضويا) تنعدم فيه المسؤولية ويسود الرخاء والحرية التامة، فلا يشتغل فيه أمرؤ إلا بمحض مشيئته، وينعم فيه الفلاح براحة تامة يستطيع معها أن يسترخي مرتاحا وبجانبه قدح النبيذ ويداعبه النسيم الهادئ الرقيق فلا يعبأ بالأحداث الطارئة والقيود الثقيلة التي يتقيد بها المجتمع التقليدي للأفراد والجماعات. وهذا الوصف كما ترى تعبير يلائم كثيرا مقومات الشخصية الروسية ورغبتها في الراحة والاستقرار والطمأنينة وتجنب النكبات التي حاقت بها من غزوات التتر والمغول إلى طغيان القياصرة ومذابح نابليون وهتلر.
وحين تعتقد الشخصية الروسية بأن هذا الفردوس لا يتحقق إلا إذا أمن شر ما رواء هذا الستار البعيد الذي يحد أفق السهول الشاسعة تنفعل فيتولد فيها عند الحاجة جماح عنيف ورغبة ملحة في اختراق هذا الستار، ومن ثم فليس من حرج على الشخصية الروسية أن تتقبل فكرة التوسع سواء تحت قيادة القياصرة أم بزعامة ستالين.
ولقد سبق الثورة الشيوعية التي استولت على الحكم في روسيا عام ١٩١٧ ميلاد الحركة النهلستية التي برزت قوية ذات بأس في عام ١٨٧٠ والتي يعتقد بعض مؤرخي الحركة السوفييتية بأن البلشفيك قد تأثروا بها. فقد اعترف لينين فيلسوف الشيوعية السوفييتية بدينه الفكري لبعض تعاليم (ناشايف) زعيم الحركة النهلستية التي من مبادئها التحلل من القيم