وعلى ذلك فإن طابع الصراع المسلح والحروب الروسية (الداخلية والتوسعية) مليء بالعنف والتدمير الساحق. والتاريخ الروسي يسجل مذابح أهلكت فيها الأنفس بالآلاف ودمرت بها قطاعات بأكملها. فلا غرابة أن يقول الشاعر الروسي ألكسندر بلوك في عنفوان الصراع السوفييتي الدامي للسيطرة على الحكم في روسيا (إن ما نواجهه اليوم من مذابح ليس إلا صورة جديدة لمنظر قديم).
وحين نمى إلى (إيقاف المخيف) إبان هجومه على (لنغوغرود) بأن هذه المدينة تتفاوض سرا مع أعدائه، لم ينتظر ليتحقق من صدق هذا التفاوض؛ بل أسرع فضرب ضربته القاسية فأهلك ٦٠ ألف نسمة قتلا وحرقا وتنكيلا، ولما تبين له خطأ حسابه لم يعتذر ولم يساوم ضحيته، وتقبلت العقلية الروسية هذه الفظاعة على أنها أمر لا مفر منه وجزء من السلوك الروسي الذي لا يرحم في الملمات.
وبمثل هذه السلبية تقبلت العقلية الروسية فضائع الخان التتري الذي زحف من شبه جزيرة القرم متعقبا (إيقاف المخيف) إلى موسكو فلم تسلم هذه المدينة القاسية إلا بعد أن أهلك الخان التتري نصف مليون من أهلها.
وسلبية العقلية الروسية إزاء القساوة والعنف لا تقتصر على الصراع الداخلي والحروب الأهلية. فالتاريخ يسجل على نابليون قساوة رهيبة في حملته الروسية، وعلى جحافل هتلر فظاعة أهلكت النسل في أوكرانيا وروسيا البيضاء، ومع ذلك فلم تجد العقلية الروسية وسلبيتها، ومع ذلك فلم تجد العقلية الروسية وسلبيتها إزاء الأحداث الدامية غرابة في أن تعود إلى مصادقة الألمان كما تدل على ذلك سياسة روسيا السوفييتية اليوم الداعية إلى الوحدة الألمانية. وسبب ذلك أن طبيعة الروس كثيرا من المرونة والانتهازية تتلون حسب الحاجة فتتلاءم مع الظروف والمناسبات.
وثمة أمر آخر يتصل بسلوك العقلية الروسية إزاء العالم الخارجي؛ فإذا كنت متفقا مع أصحاب الرأي القائل بأن العقلية الروسية مدفوعة في رغبتها بالتوسع واختراق الستار القائم في أطراف الأفق البعيد - مدفوعة بالخوف مما يكمن وراء هذا الستار من أعداء شداد - إذا كنت على وفاق مع أصحاب هذا الرأي فإنك لن تنتظر من العقلية الروسية